علماؤنا الصغار قبل دخولهم إلى المدرسة يحلقون دوماً بين الخيال وفوق الحقيقة للبحث عنها، يبحثون عن ومضاتها فهماً وبحثاً، وعن الأسباب والمعلومات وسبر أغوار الـ"لماذا" وعمق إجاباتها وظواهرها ومكوناتها وماهيتها..!
تأتي سن السادسة والموعد المرهون بالمستقبل، فتستقبلهم المدرسة لتبدأ مسلسل البرمجة الذهنية تلقيناً وحفظاً، فيصاب ذلك (العالم) الصغير بردة فعل وصدمة فكرية من الأنظمة الصارمة والمناهج والمعلم والمقرر الدراسي، وطرق تدريس مقولبة لا تتوافق مع أبعاد نظرته كباحث مستنير يندمج ويتقولب لديه هذا المفهوم للتعلم ويتكيف معه، مع ما يطالب به معلمه، وما يفرضه عليه التقويم المستمر ومخرجاته مع الكتاب والمنهج المدرسي (فقط)، وذلك هو النمط السائد (الأوحد) لتعليمنا والمفروض على آبائنا قبلنا منذ دخولهم إلى المدرسة حتى خروجهم إلى مستقبلٍ أثبت ذلك حتى تاريخه رغم الخطط (الحديثة) وحقول التجارب الشخصية ومخرجات "التقويم المستمر" و(تطوير التعليم) الذي لم نلحظه أو نلامس جدواه وملياراته..!
ويخلفها ويحاكيها تزامناً في كل مرحلة دراسية، طرق تدريس تلبي احتياجات فكر ترديدي (ببغاوي) يشحن الأذهان، ويملأ مستودع الذاكرة، حتى يصبح (المتفوق، الموهوب، الدافور..!) هو الببغاوي الأزهى ألواناً وتغريداً بين أقرانه، والناتج قولبة العقل نحو اللاتفكير فقط!
وبعد تلك القولبة، يعد كل ما سبق تجهيزا لطلابنا – بما كتبت عنه كثيراً ولم أزل - للاختبارات الدراسية، الأداة (الوحيدة) الحاكمة على (إنسان) بكامل قواه العقلية وطاقاته الكامنة بأنه إنسانٌ ناجحٌ أو أنه إنسانٌ نجح في الفشل، عبر ورقةٍ (فارغةٍ) تمثل هذا الطالب (الإنسان) كعلامات، وكأن خبراته وحضوره وتفاعله ونموه متمثلة في تلك الورقة المرعبة التي جعلت من نظام الاختبارات مارداً يمارس سلطويته النافذة على مجتمع بأسره سنين عدداً!
فالاختبارات باختصار تمثل انفصالا تاماً بين الطالب والهدف العام للتعلم بالنمو الشامل له، وكذلك انفصالا بين المنهج الدراسي والتحصيل العلمي، وتجعل العقل قابعاً في دائرة التذكر فقط بتقصي المعلومة وحفظها وتخزينها في الذاكرة، واسترجاعها كذلك فقط في (ورقة) حتى مستقبله وتخرجه من الجامعة!.
والاختبارات.. خطرٌ تعلُّمي حذر منه كثير من علماء التربية والنظم التعليمية الدولية وانتقدتها كحاكمة (وحيدة) مقيّدة للإنسان في دراسته بالنجاح والفشل، والحكم على معرفته وخبرته واتجاهاته واستعداداته ونشاطه، ولكن تعليمنا يأبى إلا أن (يُقَدّس) الاختبارات ويجعلها ركناً وحيداً، أهمل فيه بقية طرق القياس وأساليب شمولية تتناول مساحات لمستويات التعلم التي اكتسبها الطالب من خلال دراسته لعام كامل كمطلب تعليمي حديث وعادل في نفس الوقت.
الاختبارات.. ونتائجها لا تعني أن الطالب الذي يكون تحصيله متدنياً هو طالبٌ متدنٍ علمياً ولم يتعلم أو تتقدم خبراته وقدراته واستعداداته، والعكس كذلك علمياً ومنطقياً، وبالتالي لا تعكس الورقة (الفارغة) ولا تمثل واقعاً معرفياً أو مهارياً، ولكنها (علامات) لورقة كانت بيضاء أردناها أن تتحكم في عقولنا ومستقبلنا، وبقاؤها كأداة تمارس بكل (إرهاب) سلطوي فكري هو قتل لروح الإبداع الكامن في طلابنا بمنأى عن تعلمهم التطبيقي المهاري وتفكيرهم الإبداعي، بل تجاوزته مشاركة حقيقية في نفور طلابنا من المدارس والانتماء لها، مع مشاهد مكرورة موسمية تبدأ بمحاولات غش مستميتة بطرق إبداعية، وتجمعات طلابية (درباوية)، وتمزيق للكتب الدراسية بعد الخروج من قاعة الامتحانات مباشرة، في أسوأ منظر يشوه العملية التعليمية برمتها وقائمة إفرزاتها الخاطئة تطول وتطول.
تعليمنا.. أغلب علماء الكون عبر التاريخ ألهبوا عقولهم بحثاً واختراعاً، كسروا حواجز لغة التفكير وأسئلته، هرباً من الدراسة وأسئلة الاختبارات التي لا تقبل سوى إجابات مغلفة جامدة متبلدة سميت إجابات نموذجية، والتي مثلت ثوابت لأنظمتنا التعليمية وإرهاصاتها ومستقبلها، وكانت شريكاً رئيساً لمخرجات قاصرة في عقل الإنسان قبل نواتج التعليم لضعف تقويمها ودعمها لمجالات التنمية في المجالات التقنية أو التطبيقية وضعفها في مواكبة التحديات للألفية الفكرية.. فإلى متى تحكم عقولنا ورقة فارغة؟!