ربما كان أبرز حدث في عام 2013 على الصعيد العالمي هو تسريبات موظف وكالة الأمن القومي الأميركي السابق إدوارد سنودن، والتي تعلقت ببرنامج التجسس واسع النطاق "بريزم" (PRISM). أهمية قضية سنودن ليست في كشف وجود تجسس قائم على ما يدور في شبكة الإنترنت، حيث إنه طالما كان هناك انطباع شعبي يعززه التحليل العقلاني من أن أجهزة الأمن في أي دولة تقوم بمراقبة فضاء الإنترنت كما تقوم بمراقبة أي مجال آخر. الأهمية الحقيقية لهذه التسريبات تنبع من كونها تؤكد حدوث تحول حقيقي على أرض الواقع في عمل الأجهزة الأمنية حول العالم، وهو تحول متوقع منذ مدة وكان مثار جدل ونقاش بين المتخصصين في دراسة تأثيرات العولمة على مناحي الحياة المختلفة. من هنا يمكن القول إن تسريبات سنودن ليست كشفا لأمر مستور بقدر ما هي أول حجر يرمى في مياه مسألة ستلازم الدول والمجتمعات على مدى العقود القادمة، وهي مسألة رسم الخط الفاصل بين الأمن والخصوصية الشخصية، خاصة أن العولمة تزيد مع الوقت من تشويش هذا الخط.
إن المسألة تعود لتسعينات القرن الماضي مع انطلاق ثورة الاتصالات والمعلومات، حيث بدأ النقاش في الدوائر الأكاديمية في حينها عن الاتجاهات الأساسية (major trends)، التي ستغير من شكل العالم مع الوقت وأساليب عمل الدول. الثورة التقنية تغير بشكل جذري من حياتنا دون أن نتنبه، الحروب – على سبيل المثال – ربما ستعتمد مع الوقت بشكل أكبر على الطائرات من دون طيار وعلى الأسلحة غير التقليدية التي يديرها جنود في غرف الحرب الإلكترونية بدلا من ساحات القتال على الأرض. من جهة أخرى فإن عمل الأجهزة الأمنية – كالاستخبارات مثلا – سيتحول من الحصول على المعلومة إلى "فلترتها" وتحليلها. إن أكبر تطور قدمته العولمة من خلال تطور وسائل الاتصالات والمواصلات هو حدوث ثورة معلوماتية (Information Revolution)، جعلت أغلب ما يدور حول العالم مسجلا في مصادر مفتوحة، كل شخص يحمل هاتفا ذكيا أصبحت لديه القدرة على وضع معلومة في فضاء الإنترنت، وكم المعلومات الهائل والمتراكم هذا قام بتحويل في طبيعة عمل الأجهزة الأمنية. فإذا كانت هذه الأجهزة اعتمدت في الماضي في تحصيل 80% - على سبيل المثال – من معلوماتها من خلال مخبرين أو جواسيس، بينما 20% فقط من خلال شبكات الإعلام ومصادر المعلومات المفتوحة (open sources)، فإنه منذ مطلع هذا القرن انقلبت الآية. لقد شهدنا خلال الحرب الأميركية على العراق كيف كانت قنوات الإعلام أسرع في تحصيل المعلومة من الجيوش، ومع الوقت ازداد هذا الاتجاه العالمي حتى باتت مواقع مثل "فيسبوك" و"تويتر" مصادر أساسية للحصول على المعلومات خلال الثورة الخضراء في إيران أو ثورات الربيع العربي. في واقع الأمر، لم تعد هناك أهمية لوجود عملاء على الأرض يجمعون المعلومات إلا في حالات محدودة فيما يتعلق بالمعلومات بالغة الدقة والسرية، وعدا ذلك فإن كل شخص متصل بالإنترنت من خلال هاتف ذكي – مثلا – هو مصدر فعلي للمعلومة على الأرض، إذا ما تم الاستثمار بشكل صحيح وفعال في كيفية الحصول على هذه المعلومات وتحليلها.
إلا أن هذه المسألة ليست بالسهولة المطروحة، فحجم المعلومات الهائل والذي يتضاعف كل يوم في فضاء الإنترنت يجعل من الصعوبة بمكان أن تقوم الأجهزة الأمنية المعنية بمراقبته واستخلاص المعلومات كما يعتقد البعض، فالأجهزة الأمنية في أي دولة كانت تواجه عائقين أساسيين: توفر الموارد البشرية اللازمة لمثل هذه العملية، وتوفر الموارد المالية المطلوبة لها. نظريا يمكن للأجهزة الأمنية في الدول أن تراقب كل ما يحدث في الفضاء العام للإنترنت، ولكن عمليا يتطلب مثل هذا الأمر الكثير من الموارد والتي إن توفرت لن تحقق فعالية التكلفة (cost-effective)، فالمردود مقابل التكلفة يجعل الأمر غير ذي أولوية. ومن ثم فإن مسألة التجسس أو مراقبة ما يحدث في فضاء الإنترنت تتم من خلال طريقين:
أولا: بالترصد المباشر لأشخاص معينين تبعا لأهميتهم الأمنية أو بناء على معلومات مسبقة بشأنهم، وهذا أمر طالما كان يتم في السابق سواء من خلال مراقبة خط الهاتف أو مراقبة البريد الإلكتروني وغيره.
ثانيا: من خلال آليات التنقيب في البيانات أو ما يعرف بـ"Data Mininng" وهو ما يمثل نقطة التحول الجوهري هنا. فبرنامج "بريزم" أو غيره من البرامج الأمنية المشابهة في أي دولة لا تعتمد على التجسس المباشر إنما على جمع الكم الهائل من المعلومات المتاح في فضاء الإنترنت وحفظ البيانات إما لاسترجاعها في وقت لاحق عند الحاجة أو لتحليلها بعدة أساليب لاستخلاص المعلومة دون أن تكون العملية موجهة بشكل مباشر لشخص أو جهة ما. ومع ازدياد اعتماد البشر على التقنية الحديثة وعلى الإنترنت في كل شؤون حياتهم تزداد كمية المعلومات الشخصية المتاحة، والتي يتم في نهاية الأمر جمعها كبيانات يمكن الرجوع لها أو الاطلاع عليها أو استخدامها، وهنا تظهر المعضلة بانتهاك الخصوصية الشخصية للأفراد من أجل الدواعي الأمنية، فالمحادثات أو المعلومات الشخصية ستصبح جميعها في نهاية المطاف مسجلة ومرصودة ومتاحة عند الحاجة. والولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي تقوم بهذا الأمر، فعلى الأغلب تقوم جميع الدول به على اختلاف مواردها وقدراتها، ومن ثم فالسؤال ليس حول كيفية إيقاف هذا الأمر وهو بات جزءا من الكيفية التي تتشكل بها الدول والمجتمعات مع الوقت، وإنما السؤال هو: كيف يمكن لنا إيجاد صيغة ترسم خطا فاصلا وواضحا بين الحفاظ على الأمن والحفاظ على خصوصيات الناس؟
إن الحماية الدستورية والقانونية بأن تكون أي عملية تجسس أو مراقبة بأمر قضائي تعالج جزءا من المعضلة فقط، وهو الجزء المتعلق بالترصد المباشر لأشخاص أو جهات. المعضلة الأساسية هنا هي في عملية التنقيب عن البيانات والتي تتم في أغلب الأحوال بشكل آلي وفي ذات الوقت دون أن تكون موجهة لشخص أو جهة بصورة محددة. إن النقطة التي كشفها إدوارد سنودن وأثارت الرأي العام تتعلق بهذه المسالة تحديدا، وهي حصول آليات التنقيب عن البيانات على بيانات مواطنين أميركيين بشكل تلقائي، فأنظمة التنقيب عن البيانات مهمتها في نهاية المطاف هو جمع ما يمكن جمعه.
إن الانعكاس الاجتماعي الخطير لوجود عملية انتهاك آلية لخصوصيات الناس يتمثل في انهيار حالة الطمأنينة الاجتماعية العامة، فشعور أي مواطن بأن خصوصياته معرضة للانتهاك بسهولة سيقوده بالتبعية مع الوقت لحالة تمرد، خاصة إذا ما أسيء استخدام هذا الأمر. من جهة أخرى فإن عدم اطمئنان الناس في حياتهم اليومية بسبب ترسخ الاعتقاد بانتهاك الخصوصية يزيد من حالة التوتر في المجتمع بشكل عام، وهو عارض غير صحي لأي دولة أو مجتمع.
إن السبيل الأمثل لمعالجة هذا الأمر قد تكون بدايته من خلال قيام الأجهزة الأمنية نفسها والمعنية بمراقبة ما يدور في فضاء الإنترنت بالمبادرة بإصدار أنظمة داخلية واضحة تشدد من حماية خصوصيات الناس وتضع الضمانات اللازمة لذلك في آليات عملها كمؤسسات، على أن تعلن هذه الأجهزة عن تلك الضمانات للناس بما يبعث الطمأنينة لهم. فهناك فرق كبير بين أن يشعر المواطن أن خصوصياته معرضة للانتهاك من أي موظف قادر على الولوج للمعلومة فقط من خلال عمله بجهاز أمني وبين أن يعلم المواطن أن هناك آليات ونظماً داخلية في هذه المؤسسات تضمن أن الاطلاع على أي معلومة محكوم بإجراءات واضحة لها مسبباتها وبناء على مواثيق شرف داخلية لهذه المؤسسات.
إن الأجهزة الأمنية التي مهمتها الأساسية هي إرساء الطمأنينة الاجتماعية بين المواطنين في الدول عليها أن تتخذ خطوة إضافية في هذا الاتجاه بإرساء الطمأنينة فيما يتعلق بتعاملها مع الخصوصيات الشخصية المتاحة في الإنترنت، خاصة أنها هي المعنية بهذا الأمر في هذه الحالة. ولعل هذه تكون خطوة على طريق طويل لتأسيس خط واضح وفاصل بين الأمن وخصوصيات الناس.