تنظيم داعش الإرهابي كما هو معروف، أحد أفرع تنظيم القاعدة في البلاد العربية التي تتمدد أفرعها شرق وغرب وشمال وجنوب غبراء صحاري العالم العربي، من محيطه الهادر إلى خليجه الخادر. تنظيم القاعدة وغيره من تنظيمات إرهابية ومتشددة ليست غريبة عنا، لأننا نحب أو نتمنى بأن تكون ويحلو لنا بأن نطلق عليها من فترة لأخرى، من باب تبرئة الذات والتنصل مما اقترفته وتقترفه ضمائرنا وألسنتا وأيادينا، من مساعدة بعضنا المباشرة وغير المباشرة في تأييد القاعدة وأخواتها في التشدد والإرهاب في غبرائنا العربية. ففي قلب البعض منا قاعدة تنطلق منها "القاعدة" وتعود إليها، متى شاءت، وأين شاءت، وكيف شاءت، وحيث شاءت وأساءت ودمرت وقطعت وأبادت؛ فبعض قلوبنا منطلق القاعدة، وقلوب البعض مأواها ومخبؤها. القاعدة في قلوب بعضنا، اعترفنا بذلك أم لم نعترف.
في داخل البعض منا يوجد هنالك ابن لادن، يكبر ويصغر، ويخرج يغبر علينا، حسب الظروف والأزمات التي نمر بها. ولو حاربنا ابن لادن واستنكرنا أفعاله، فهو كان ينفذ ما يردده البعض ولا يقدر على تنفيذه. فهؤلاء يرددون أقوال ابن لادن أثناء حياته وحتى بعد وفاته، لتكون أكثر وقعا مما كان يقوله، وعلنا وعلى لسان بعض من هو محسوب علينا من أهل العقل والرأي!! مات ابن لادن؛ ولكنه ما زال بيننا وفينا حيا يرزق، يجوب غبراءنا العربية، ويكرم في أي مكان يحل فيه أو يرحل إليه. القاعدة تكبر في دواخل بعضنا لأننا لا نكبر؛ فدواخلنا الغابرة التي أخرجت ابن لادن لا تزال حية فينا، وتُخرج بعد كل أزمة تمر بنا، ألف ابن لادن.
القاعدة راسخة الأركان، مثبتة على مئات الملايين من القواعد، ولذلك فهي لا تحيد عن طريقها ولا تميد. القاعدة مبنية على مبادئ وقواعد مثبتة في دواخل بعضنا، يؤمن بها كلها أو جلها أو جزء منها أو يؤمن بها تارة ويخفيها تارة أخرى. بعضنا في داخله قاعدة لـ"القاعدة" تنطلق منها وتأوي إليها، متى ما تمت مطاردة القاعدة. القاعدة غير العلنية تطارد وتضرب "القاعدة" العلنية؛ ولذلك فحتى لو ماتت القاعدة العلنية فالقاعدة غير العلنية ستعلن عن خروج قاعدة علنية جديدة، في لحظة ما، وفي مكان ما، وبسبب ظرف ما.
قبل 1500 سنة، دارت بيننا رحى حرب اسمها داحس والغبراء؛ ولكنها كانت حربا -مقارنة بما نحن فيه- حضارية نظيفة لا غدر فيها ولا عدوان ولا تقطيع ولا تمثيل، ولا تعرض لآمنين ولا عزل، ولا حتى لشجر أو حجر، وليس فيها تزييف أو كذب أو غدر. دارت رحى داحس والغبراء لمدة 40 سنة، بين قبيلتين منا، لم يتأثر الاقتصاد أو الحياة الطبيعية لأي منهما. كانت تطبق بحرب داحس والغبراء أعراف أناس نظاف العقول والذمم، تتجاوز إنسانية تلك الحرب إنسانية اتفاقية جنيف لحماية الحقوق الإنسانية الأساسية في حالة الحروب بمراحل. أما الآن وبعد 1500 سنة، وفي القرن الواحد والعشرين، وبعد مشاريعنا الحضارية العربية والإسلامية كلها، وفي ظل قمم الحضارات الإنسانية، التي تزهو وتنمو حولنا؛ نشن على بعضنا البعض حرب داعش والغبراء، التي هي قائمة بيننا دون رحمة ولا هوادة؛ نقطع فيها أوصال بعضنا بعضا، عزلا كنا أم مقاتلين، نساء كنا أم رجالا، كبارا كنا أم صغارا، أطفالا كنا أم عجائز. القتل في حربنا موجه لكل هدف متحرك أو ثابت، حتى ولو كان ثابتا في أسرة المستشفيات، بلا تمييز وبلا رحمة ولا هوادة. الكل منا كائن من كان، أصبح هدفا مشروعا لنا ومنا وعلينا.
أليس منا من تبرع بجزء ولو يسير من ماله للقاعدة؟ أليس منا من يردد مؤمنا، فكرة خطيرة من الأفكار التي تقوم عليها مبادئ القاعدة؟ أليس منا من صفق لعمل إجرامي قامت به القاعدة؟ سواء صفق باليد أم باللسان أم بالقلب، وذلك أضعف العدوان؟ كل عمل سواء مشروع خير أم شر؛ هو في الأساس نتيجة لتنفيذ فكرة متأصلة في محيط هذا المشروع أو ذاك. ولن ينفذ داخل أي محيط ما أي مشروع، لا يعكس أو يترجم فكرة متأصلة فيه، تم وعي ذلك أم لم يتم. فالأفكار الغريبة عن أي محيط لا تنفذ فيه؛ تنفذ في محيط غريب عنه.
في ظل الانسدادات الحضارية والمدنية والمشاريع الإنسانية في محيطنا، خرج علينا ابن لادن، وفي كل يوم يخرج وسيخرج علينا أكثر من ألف ابن لادن. انسداد أفق إصلاح الخطاب الديني وانسداد الأفق المدني والحضاري في العالم العربي، سيجعل من أوديته وسهوله وجباله مرتعا خصبا لحروب وغارات داعش والغبراء. متى ما ظلت آفاق مشاريعنا الحضارية والإنسانية والمدنية والجمالية مسدودة؛ فسيوجد لدينا داعشيون وغابرون، يغبرون بكل صفاقة ووقاحة بحوافرهم على مستوى رؤيتنا القصيرة أصلا.
الداعشيون ليسوا غرباء عنا، خرجتهم بيوتنا العريقة وجامعاتنا العتيدة وجوامع تحريضنا السديدة ووسائل إعلامنا الطريدة؛ وقراءتنا التاريخية البليدة. كل منا قد يلعن "داعش" ومن خلفها الغبراء؛ ولكنه في كل لحظة، يدري أو لا يدري، يخرج جنودا لداعش والغبراء. في أيام الفقر زرعنا والغبراء، وفي أيام الثراء أثمرنا داحس والغبراء. في كل أزمة تطرأ علينا، كل منا يجب أن ينتظر؛ إما أن يكون داعشيا أو مدعوشا؛ وسلامة الداعش والمدعوش معدومة إلا من القبور والنعوش.
الداعشي معاد للعقل وللمنطق ولكل القيم الإنسانية النبيلة ومكفر لكل من يؤمن بها، الداعشي في الأول والأخير عدو للإنسان كاره للحياة والسلام.
ولذلك فعندما تلتفت لنفسك أو لبعض من حولك، ربما ستجد فيك أو فيه طائفيا ضد طائفة ما أو عنصريا ضد فئة ما، أو كارها للآخر يقتات على الخرافة، أو عدوا للمرأة أو محتسبا محطما لهذا الإبداع أو ذاك الجمال، تستفزه المدنية والحضارة. وهذه من القواعد الثابتة في دواخل البعض منا وتلتمس "القاعدة" منها قاعدتها الشرعية وتعتبرها الداعمة والمغذية والمحركة لها. وعليه، فهنا يجب هدم وتحطيم القواعد التي في دواخلنا لهدم وتحطيم القواعد خارج أنفسنا، والتي تقتات على القواعد داخل أنفسنا من أجل تشييد قواعد راسخة للانطلاق منها.. وذلك لإنقاذ وحماية أنفسنا، إن كنا جادين وصادقين مع أنفسنا.