مع زيادة وتيرة الاحتدام السياسي في المنطقة ودخول المذهبية والدينية إليها مما ينذر باستفحال الصراعات الدينية والمذهبية والتغرير بالبسطاء للدخول في هذا الصراع، فإن الإعلام أمامه مهمة عظمى في إزالة أو تخفيف هذا الصراع، وليس هو الوحيد وإنما الجميع لا بد أن يعمل لوأد هذا الصراع، ولكني أخصه بالذكر هنا كأحد أبرز من توكل إليهم المهمة.

ما نحتاجه من إعلامنا أن يقوم بدور المنقذ لمجتمعاتنا من التدهور الحاصل من هذه الصراعات، ولا بد من أن يغير الطريقة التي يعالج فيها هذه الصراعات بدلا من طريقة ترداد وعرض الجرائم الشنيعة التي قاموا بها، أو عرض الفتاوى المحذّرة منها فقط، بل لا بد من عرض فكرة توظيف الدين وكيف يُستغل، والعوامل النفسية والاجتماعية التي تجعل الفرد ينخرط في صراع طائفي والإتيان بمتخصصين في ذلك، وكيف يتلقى من رهبان الطائفة أيا كانت؟ وكيف أصبحت الحياة الحديثة بعيدة عن هذا المتلقي البسيط ولا يقدم أدبياتها عليهم؟ وهل الخطاب الديني عموما في تلك المجتمعات أسهم في ذلك؟ وهل الدول مسؤولة بعرضها لخطاب ديني باهت؟

كل هذه الأسئلة وغيرها لا بد أن يتناولها الإعلام وبكثافة، وأن يكثف من الحوارات مع الأطياف المختلفة فكريا وعقديا وإن لم يكونوا هم جزءا من الصراع، لأن كثرة عرض الحوارات في الأديان والأفكار الدينية عموما تعطي انطباعا بنسبية هذه الأفكار، ولا أقصد الأفكار الدينية المتداولة فحسب وإنما جنس الفكر الديني عموما، وبعدها سوف تدب الحياة فيه من جديد، فدخول النسبية إليه والاحتمالية إنعاش له، وإذا لم تدخلها النسبية فسوف يظل الصراع مستمرا، فليس المراد أن يغير الفرد معتقده إلى المعتقد الصحيح وإنما دخول النسبية إليه كما دخلت في معتقداتنا نحن، فالنسبية تجعل هناك تقبلا للآراء الأخرى، وتجعل هناك مجالا للإصلاح من الداخل وهذا هو الأهم، ففي الإصلاح لا يُعطى الشخص المعلومة الصحيحة وإنما يُفتح له المجال ليدركها هو بنفسه، فهذا أهم من التلقين، فالخطأ الذي نرتكبه في الإصلاح الديني هو أن يقوم مذهب دوغمائي بتصحيح عقائد مذهب آخر فيعطي انطباعا بأن المذهب المصحح يهدف إلى توطيد نفسه، بل يصبح التصحيح نفسه من الصراع الطائفي نفسه ويحتاج هو نفسه إلى تصحيح لأنه يخرج من نفس القناعات المطلقة، فالإصلاح الديني لا يقوم به الدين ولا ينطلق منه وإنما من الفكر والعقل لأنهما الأقدران على فحصه ورده إلى عناصره الأولية المكونة له، ولأن أحكامهما نسبية مهما بلغت من تعصب.

هناك فن جميل نحتاجه في الإعلام، وهو المناظرة إضافة للحوار، وليس شرطا أن يكون الغرض منها الإلزام وتكون ناتجة من العداء أو شدة الاختلاف، وإنما هي وسيلة للوصول إلى المعرفة ولا تأتي إلا بعد إصرار كل من الطرفين على آرائه مع الإيمان بنسبيتها، وهي تختلف عن المباهلة والتي هي مرفوضة لأن فيها تكذيبا للآخر، ولنكن حذرين من التناقض الحاصل الآن حينما تحارب قناة فضائية تطرفا دينيا آتيا من سوء فهم للنص أو خرافة، ثم تأتي بعده ببرنامج لتفسير الأحلام، وهو أسوأ من التطرف الديني في بعده عن العقل وتجسيد الخرافة، أو أن تأتي بعده بمواعظ تحث على الالتزام بأقوال الأقدمين بطريقة شبيهة بالتزام الأنظمة والقوانين، فهذه تغذي التزام أولئك المتصارعين والمتطرفين بتراثهم لأنها تجسّد فكرة الإيمان بالتراث كمرجعية عليا، فالأفكار لا تحارب بنفس طريقة محاربة الأضرار الصحية لطعام معين بإرشادات مباشرة، وإنما بالبحث عن مغذيات الصراع الفكرية والقضاء عليها، وإذا كانت هذه المغذيات نقويها ببرامج أخرى فالعمل هنا تحصيل حاصل.

وأختم بضرورة أن يصدر نظام يعفي القناة أو الصحيفة أو الملتقيات الثقافية من المسؤولية في حال تجاوز إحدى الشخصيات، وأن يتحمل الشخص خطأه وتجاوزه، والقناة أو الصحيفة أو الملتقى غير مسؤولين نهائيا، أما تحملها للمسؤولية ثم إيقافها أو إيقاف الإعلامي فهذا مما يحد من حركة الفكر والتنوير، فقد يمنعون طرحا جيدا للشك فيه تفاديا للمحاسبة مع أنه سليم في ذاته وقد لا يُساءلون عنه، وأيضا فالإعفاء يؤدي إلى ضبط صاحب الطرح لطرحه، لأنه الوحيد الذي سيُحاسب ولا يتكئ على الجهة الإعلامية، فهذا الإعفاء مما يشجع الإعلام كثيرا في محاربة هذه المواضيع الحساسة، فمن المستبعد أن تخلو من التجاوزات.