التغيير، كلمة أخذت كثيرا من التحولات في المعنى وفي المفهوم أيضا؛ بالرغم من أنها كلمة كغيرها من الكلمات، فلماذا تلك الصولات والجولات لهذه الكلمة دون غيرها في قواميسنا العربية، فتتخذ مكانا لها، بل وتتخذ حالا جديدا في كل حين حسب الطلب.

وحول التغيير في المعنى يقول الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه دلالة الألفاظ: هو "تغير موقفنا من الشيء: إذا كان المعنى هو ما نملكه من أفكار وتصورات عن المشار إليه. التغييرات تحدث في اللغة دائما؛ لأنها نظام للتواصل بين الناس مرتبطة بأحوالهم وظروفهم الاجتماعية والثقافية والعقلية، وهذه الأحوال والظروف لا تسير على وتيرة واحدة. ومتى توافرت الأسباب حدث التغيير حسب طرق وأصناف معينة".

تلك هي أحوال كلمة التغيير، وظروف تقلبها حسب الحالة والمزاج! ثم يقول أحد الباحثين في خلاصة بحثه عن تغيير المعنى: "تغير المعنى يُعد ثمرةً لجهود اللغويين المحدثين، حيث أفادت دراستهم عن التطور الدلالي حصر مظاهر رئيسة لهذا التطور، وهى:

1- توسيع المعنى "التعميم" 2- تضييق المعنى "التخصيص" 3- انتقال المعنى. 4- مظاهر أخرى.. وارتباط اللغة بالمجتمع ومتغيراته المتعددة، جعل الأسباب التي تؤدي إلى تغير المعنى متعددة ومتنوعة، ويمكن تصنيف هذه الأسباب إلى نوعين: أسباب لغوية، وأسباب اجتماعية، فإذا كانت هذه النقاط هي خلاصة بحثه حول تمحور المعنى أو تغيره؛ فلنذهب إلى الأسباب الاجتماعية التي ذكرها باحثنا سلفا، وذلك لأننا في الأعوام الأخيرة نجد كلمة التغيير تأخذ مفهوما آخر، ورنينا خاصا يرن في أذن المتلقي لمجرد وصول هذه الكلمة إلى أذنه، فمنهم من يُسَر ويضحك ملء أشداقه ويروج لها، ومنهم من يجعل عليها إناء محكما خوفا من رنينها المسموم الذي تنقله رياح آتية من الغرب. حتى أصبحت تحمل معنى يقترب من المصطلح الفلسفي، وكأننا في أوائل القرن العشرين؛ حينما ظهرت فلسفة مجازها "الإنسان أمام العالم"، وأصبح الصراع الإنساني السائد في تلك الفلسفات ـ ومنها فلسفة العبث والتعبيرية والسريالية وما إلى ذلك ـ تتمحور حول الإنسان والعالم! فجعلت الإنسان في كفة هذا الصراع والعالم في كفة أخرى، حتى يأخذ موقفا من العالم، وذلك بعد الحربين العالميتين المهلكتين.

ولم تأخذ هذه الكلمة صداها الرنان إلا بعد ما ظهرت حركات المعهد الديموقراطي الأميركي ومنظمة هيومن رايتس ووتش Human Rights Watch وغيرها، التي تعني "مراقبة حقوق الإنسان"، وهي منظمة دولية غير حكومية معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان والدعوة لها، مقرها نيويورك. وقد تأسست هذه المنظمة سنة 1978 للتحقق من أن الاتحاد السوفيتي يحترم اتفاقات هلسنكي، وكانت منظمات أخرى قد أنشئت لمراقبة حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، ودمج هذه المنظمات نتج عن تأسيس هذه المنظمة.

ومن هنا بدأ مفهوم كلمة التغيير يأخذ منحى آخر، يتمحور حول هذا المفهوم الذي أسسست له هذه المنظمات، فأصبحت الكلمة نفسها تحمل مفهوما، وتتحول إلى مصطلح، يتحسس الفرد مسدسه حينما تنطق هذه الكلمة!.

من الذي نحت هذه الكلمة؟ ومن الذي مسخ معناها؟ حتى أصبح فزاعة للأمم وللحكومات وللأفراد أيضا، لأنه يجر في أذياله الدم والموت، بالرغم من أنها كلمة ذكرت في الكتاب الكريم: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

فالتغيير سمة طموحة وميزة حسنة ومسلك من مسالك النجاح والتفوق. يقول أحد الكتاب: "إن المادة الأولية للغة ثابتة، ولكن أشكالها متغيرة، وليس من الممكن أن يتطرق الفناء أو الإماتة إلى المادة الخام، إلا إذا قضى الله ألا تكون اللغة ذاتها، فأما الأشكال فإنها تحيا وتموت، تحييها ضرورة تعبيرية، ويميتها انعدام هذه الضرورة، ثم تبعثها فى صورة أخرى ضرورة جديدة، وهكذا دواليك".. وها هي كلمة التغيير تأخذ صيرورة أخرى بعثتها الضرورة التي يريدها البعض من زلزلة كيان الأمم وحياة الشعوب؛ هذه الكلمة التي تحولت من معنى البناء إلى معنى الهدم والتدمير، صناعة مستوردة بالية، لم نر لها من أثر سوى الموت والدمار والدماء المبعثرة هنا وهناك، ولكن للأسف دماء عربية حرة طاهرة تطفو على سطح رياح السموم الآتية من الغرب.

كلمة التغيير تأخذ معناها الأصيل حينما يستطيع الإنسان منا تغيير العالم حين يغير نفسه والمحيطين به. لكن ما مفهوم التغيير المقصود في المعنى الأصل؟ أعتقد أنه بذل الجهد للوصول إلى الأهداف. وباختصار شديد هو محاولة مستمرة من الإنسان إلى تطوير ذاته وواقعه من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن.. إنه معالجة الخطأ.. وتطوير الصواب والمقصود هنا التغيير الإيجابي نحو الأفضل.

لقد صرنا نخاف من كتابة كلمة التغيير؛ لأنها أصبحت مسمومة ملوثة، هذه الكلمة المعطاءة التي تحمل في طياتها معان بناءة وجميلة وبراقة، وتحمل معنى قدرة الإنسان على إدارة ذاته، وامتلاكه الإرادة والقوة والعزيمة الصادقة لتحقيق ذلك؛ ونظرة الفرد لعيوبه ومعرفة نقاط ضعفه. يقول أحد المفكرين إنها: "تحمل معنى ثالثا أيضا وهو موضوعية الإنسان وتجرده من الانتصار لذاته والدفاع الدائم عن مواقفه والتبرير لها وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثلاث المهلكات "وإعجاب كل ذي رأي برأيه" التغيير يتطلب منا أن تكون عقولنا مرنة ومفتوحة للآراء الأخرى، ولا يعني هذا بالطبع عدم وجود ثوابت لدينا لا يمكن التنازل عنها، وإنما يعني وجود قدر من المرونة العقلية التي تؤهلنا لقبول الأفكار الصحيحة حتى وإن كانت غريبة عنا، فالعادات من عوائق التغيير؛ لأن الإنسان بطبعه يميل إلى البقاء على ما اعتاد عليه".

إن كلمة التغيير كلمة عزيزة وعالية المفهوم، وباهظة الثمن لمن يقدرها ويعرف كنهها، فهي من أثمن الكلمات ومن أرقى السلوك الإنساني، وذلك بمفهومنا نحن وليس بمفهوم "هيومن رايتس.." والمعهد الديموقراطي. بمعنى أنها لا بد أن تنبع من دواخلنا ولا تملى علينا من أحد.