هناك إشكاليات فقهية تظهر بين فترة وأخرى، ومن أكثرها حساسية هي مسألة "تكفير الآخر"، فقد ثار جدل ونقاش حول توصيات مجمع الفقه الإسلامي الذي عقد مؤخراً بمدينة الرياض، بشأن الحوار بين أتباع المذاهب الإسلامية، ومن أبرز هذه التوصيات:" تحريم تكفير أي فئة من المسلمين تؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتؤمن بأركان الإسلام، وأركان الإيمان ولا تنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وحرمة دماء المسلمين باختلاف طوائفهم، وتحريم الاقتتال بينهم مطلقاً".
ومن الانتقادات التي وجهت إلى هذه التوصيات من بعض المختصين، هي وجود خطأ علمي يتعلق "بعدم الجرأة على تصحيح أخطاء الماضين"، وهذه التوصيات ما هي إلا تقرير لواقع التكفير في المجتمعات الإسلامية، وذلك بسبب وجود شرط "المنكر للمعلوم من الدين بالضرورة"، الذي يمثل الاستثناء من منع التكفير، حيث إن العديد من علماء المسلمين اختلفوا في قضايا تعتبر من ضروريات الدين، ولذلك اتخذ المتشددون والمتطرفون هذا الشرط في تكفير خصومهم والمخالفين لهم بحجة إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وبالتالي فإن هذه القرارات والتوصيات لن تتحقق على أرض الواقع.
وكان رد مجمع الفقه الإسلامي على هذه الانتقادات بالقول بأن "المراد بالمعلوم من الدين بالضرورة هو ما اتفق عليه علماء الأمة وأجمعوا على حكمه، مثل فرضية الصلاة والزكاة وحرمة الزنا والربا.. إلخ، وليس المراد محل خلاف بينهم، وإنه لا يثبت في حق أحد من المسلمين إلا إذا كان عالماً به غير متأول، وأن تبلغه الحجة على ذلك..ومن ثم فإن إيراد هذا الضابط في القرار لا يساعد على إباحة التكفير.. إنما يضبط القرار، وإن من يحكم بأن هذه من المسلمين أو من غيرهم، هم العلماء وليس غيرهم ممن لا يملكون الأدوات على ذلك".
والرد السابق لمجمع الفقه في رأيي يتجاهل حقيقة الاختلاف بين المذاهب، كما يتجاهل أيضاً واقع هذا الاختلاف في المجتمعات الإسلامية، فلا يخفى على أحد بأن التيارات الإسلامية والمذاهب تتحرك من موقع العداوة للأخرى، فكل تيار أو مذهب يضع نصب عينيه تحطيم الطرف الآخر كهدف أساسي في عملية الدعوة وكسب الأنصار والأتباع، والوسيلة في ذلك هي تكفير الآخر، والدليل على ذلك أن مجمع الفقه اجتمع على هذا الأساس، وكان من ضمن توصياته "منع الدعوة المنظمة للمذهب المخالف بين المذاهب الأخرى لما يؤدي إليه من الفتنة وتفريق الصف..".
فإذا علمنا أن من يقود عملية الدعوة وإثارة العداوة بين المذاهب هم بعض العلماء من كل مذهب، فكيف نقول إذن "ما اتفق عليه علماء الأمة وأجمعوا على حكمه"؟ هذه من ناحية.
ومن ناحية أخرى، ما المقصود بعلماء الأمة؟ هل هم العلماء في الماضي أم العلماء في وقتنا الحاضر؟ وما هو الدليل أو المعيار على هذا الإجماع؟ كما أن الاختلاف بين المذاهب لا يتعلق بمسائل الصلاة والزكاة وتحريم الزنا والربا فحسب، وإنما الاختلاف في القضايا العقائدية التي تعتبر من أهم ضروريات الدين، فلماذا يتم تجاهل هذه الحقيقة؟
في رأيي، أن مجمع الفقه حاول عدم الدخول في هذا الاختلاف وعدم مناقشة مفهوم "الكفر" من الأساس، وذلك من باب "سد الذرائع"، لأن النقاش في هذا الموضوع سوف يؤدي تلقائياً إلى نقاش مفهوم الإيمان ومفهوم الإسلام والدين؛ الأمر الذي يؤدي أيضاً إلى زعزعة المفاهيم السائدة لدى الناس وما توارثوه جيلاً بعد جيل، وما قد يثار من أسئلة قد تطرحها "العامة" في هذا المجال.
كما أن شرط "إنكار المعلوم من الدين بالضرورة"، ربما كان الهدف منه سد الأبواب أمام أي محاولة تجديدية في الفكر الإسلامي، وبالتالي التجرؤ على رجال الدين وعلى الأحكام الفقهية القديمة التي تعتبر من مسلمات الدين عند البعض.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك عدم الشعور بمخاطر الانفتاح المعلوماتي على شبكة الإنترنت التي تحتوي على مواقع وكتب هائلة تتحدث عن فضائل كل مذهب والرد على مخالفيها، ناهيك عن الانفتاح المعرفي الذي يتقاطع مع المنظومة العقائدية مع المذاهب كافة.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن أتباع المذاهب في الغالب يرون أنفسهم بأنهم أصحاب الحق المطلق وغيرهم على باطل، وبالتالي فإن حكمهم على كل إنسان سواء كان رجلاً أو امرأة، شاباً أم شيخاً، يقوم على أساس أنه هل يقبل مذهبي وعقيدتي أم لا؟ وعليه يتم تقسيم الناس إلى ثنائية تعسفية (مؤمن وكافر)، (أهل الجنة، وأهل النار)، لذلك نجد أن أمثال هؤلاء لا يجدون الراحة النفسية والاطمئنان الروحي ويشعرون بالخطر وبالقلق والخوف من الآخر دوماً، الأمر الذي يؤدي إلى إهدار كرامة الإنسان واستباحة دمه لا لشيء إلا لأنه مخالف في العقيدة والمذهب.
بعض المجتمعات الإسلامية للأسف وبسبب التعصب والمذهبية تعيش أزمة أخلاقية ومن هنا نجد أن مجمع الفقه الإسلامي يواجه تحديات كثيرة، من أهمها: تغيير واقع المجتمعات وامتصاص روح الخصومة والكراهية والحساسية المذهبية، بالإضافة إلى التجديد في الفكر الإسلامي بحيث ينبع من وجدان أخلاقي وقيم إنسانية، ينظر إلى العالم على أنه عالم الخير والمحبة، ولا يوجد سبب للخوف والاضطراب، فلو طرحت فكرة أو عقيدة جديدة على بساط البحث فأهلا وسهلا وعلينا الترحيب بها، فالحق يظهر عند تعارض وتلاقح الأفكار والآراء.
وما دام الناس يعيشون في أجواء الفقه التقليدي والمذهبي فإن الخصومة والعداوة لن تزولا، ولكن عندما يعيشون في جو الأخلاق ويدخلون في دائرة القيم الأخلاقية للدين الإسلامي فإن الفوارق ستقل فيما بينهم، وستقل أكثر عندما يعيشون المعرفة والتجربة الدينية، ولو أن جميع أتباع المذاهب المختلفة التزموا بصدق تعاليم الدين وقيمه فلا شك أنهم سيصلون إلى مكان واحد.