صديق عزيز اتصلت به لأبارك له حلول السنة الجديدة، متمنيا له الصحة والسعادة وأن يكون عامنا هذا أفضل من العام الذي رحل. فكان جوابه الساخر، لنتضرع إلى العلي القدير أن لا يجعل عامنا هذا أسوأ من العام الذي رحل. صديق آخر تمسك بالحكمة الأزلية، فقال لا تطلبوا من السنوات أن تكون أفضل، كونوا أنتم الأفضل فيها فنحن من نتغير، أما هي فتزداد أرقاما فقط. فيرد عليه صديق آخر، ببعض من الشعر الجميل: كأني سمعت ترانيم قلبي تدغدغ حلما يحن إلى زخة من مطر... وقديما قال أجدادنا، ضمن مأثور ما قالوه: نعيب زماننا والعيب فينا.
عامنا الذي رحل، تحرك ببطء وفقا لنسبية أنشتاين، رغم ما شهده العالم من كوارث طبيعية، ومن زلازل وأعاصير، وتعدد مسارح الرعب والقتل. تفتتت فيه بلدان عربية، وتفسخت كيانات وطنية. وشهد ما يقترب من الحروب الأهلية: في السودان وليبيا والعراق وسورية، واليمن. وبلد الأرز، يشهد تفجيرات متكررة، وتحيله الصراعات الإقليمية، إلى كرة، يتقاذفها هذا الفريق أو ذاك، وآخر المستفيدين هو شعب لبنان.
قائمة الانهيارات العربية لا تزال مفتوحة. في مصر انتصرت الدولة على الجماعة، لكن تبعات هذا النصر يدفعها شعب الكنانة، دما وفوضى وإرهابا لا يتوقف لحظة عن تأكيد حضوره. وهو إرهاب يجعل الدولة عاجزة عن مقابلة استحقاقات الناس، وحماية الأمن القومي والمائي، المهدد في الشمال والجنوب. وفي تونس الخضراء، يغيب الحوار الحقيقي، وقبول الرأي والرأي الآخر، وتتعلم بعض أطراف المعارضة تصفية حساباتها السياسية مع خصومها بالاغتيالات، التي طالت عددا من خيرة أقطاب الحركة الوطنية.
وشهد العام الذي انصرم، في نهايته، ما وصفه زميل في أحد الصحف المحلية بالنهاية الدرامية للمبدع العربي. حيث عثر على أحد الأرصفة في وسط مدينة القاهرة، على جثمان الأديب السوداني، محمد حسين بهنسي، لتؤكد كما وصف الأستاذ فاضل العماني، عمق التراجيديا العربية، معبرة عن واقع أكثرة مرارة ووجعا. ولتشكل وصمة عار في جبين الثقافة العربية.
والوضع على الصعيد الإقليمي والدولي لا يختلف كثيرا. فحوادث التفجير والإرهاب، ليس لها جنسية أو هوية واضحة. وعلى صعيد التنافس بين عمالقة القوة، يبدو التراجع واضحا وسريعا في القوة الأميركية، بكل تجلياتها لصالح الدب القطبي، ومنظومة البريكس.
وقد عبر هذا التراجع عن ذاته، في تحولات في علاقة الإدارة الأميركية، بخصوم، كانت حتى الأمن الأمس القريب تهدد بشن حروب بحقهم. والأمثلة الأوضح على هذا التراجع، هو توقيع اتفاق جنيف مع طهران، الذي اعتبر تسوية مرحلة لأزمة الملف النووي الإيراني. وأيضا التهيؤ لعقد مؤتمر جنيف 2 للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية.
وكان موضوع تراجع السياسة الأميركية حاضرا بقوة، في المؤتمر الأخير، الذي عقده الرئيس باراك أوباما بالبيت الأبيض. فالسؤال المركزي الذي طرحه الصحفيون المعتمدون، كان عن القرار الأسوأ بين القرارات التي اتخذها الرئيس في العام الماضي. والسؤال يحمل معنى مؤداه، أن الصحفيين مقتنعون بأن الرئيس اتخذ قرارات كثيرة خاطئة. وهناك بين الأميركيين من يعتقد أن أوباما لم يصدر قرارا صائبا خلال العام المنصرم.
وكانت المفاجأة هي اعتراف أوباما بأن 2013، هو الأصعب منذ وصوله للبيت الأبيض. فهناك الفشل في معالجة الأزمة الاقتصادية، وتبعات قضية الرهن العقاري التي لا تزال ماثلة حتى يومنا هذا. وهناك أزمة التنصت على الأميركيين، واختراق خصوصياتهم وحقوقهم الفردية التي ضمنها الدستور الأميركي، وهناك التراجع في السياسة الدولية.
ولم يقتصر الأمر على مراقبة هواتف اتصالات الأميركيين، بل تعداه ليشمل العالم بأسره، حيث تقدر بعض التقارير، أن المخابرات الأميركية رصدت عشرات المليارات من المكالمات في العام الماضي. وأن ذلك بهدف رصد عمليات الإرهاب، التي أكدت صعودها المضطرد بالأعوام الأخيرة، إن قهر الإرهاب، عملية تبدأ بمكافحة القواعد الفكرية، والهيكلية للإرهاب، وليس فقط بالتعامل مع نتائجه.
والأنكى من ذلك، هو تجسس أو تصنت المخابرات الأميركية على شخصيات ومسؤولين وقادة دول ممن هم في عداد الحلفاء والشركاء، بينهم قادة كبار كالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي هولاند.
لقد وجد الرئيس الأميركي صعوبة في إثبات نجاح خطته للرعاية الصحية، وتخفيف وقع مأساة التجسس على هواتف الأميركيين وهواتف بعض حلفائه من قادة الغرب. وكل ما قاله في هذا الصدد إنه شكل لجنة مهمتها مناقشة هذه القضية، وتقديم توصيات حولها، وأن اللجنة انتهت من عملها وحررت تقريرا، تضمن 46 توصية، قال إنها ستمكنه من إدخال إصلاحات على عمل أجهزة الاستخبارات الأميركية.
ليس موضوع التجسس على الحلفاء هو جوهر المعضلة، فقادة الدول الحليفة يعلمون أن التجسس على الحلفاء حالة مألوفة، وأنها تتم تحت ذريعة الحفاظ على الأمن والمصالح القومية، وأن ليس بإمكان أي حاكم التخلي عن جواسيسه. لكن مبرر الغضب هنا، أن القطب الأوحد فقد هيبته، ولم يعد أوحد، وأن تراجع القوة الأميركية أصبح أمرا واقعا، لا مناص من الاعتراف به، وسوف يتم التعامل مع الشريك الأميركي منذ الآن فصاعدا على ضوء ذلك. وكل ما يمكن لأوباما فعله هو التمني على أجهزته الأمنية، أن تحرص على سرية معلوماتها، وأن تمنع شركات الهواتف، والاتصالات من المتاجرة بالأسرار.
براعة أوباما الخطابية، لم تسعفه في مؤتمره الأخير، في الدفاع عن قراراته. فراح يكيل الاتهامات لمنافسيه في الحزب الجمهوري، الذي قال عنهم إنهم أغلقوا الدولة وأوقفوا العمل بالميزانية. وأن ذلك من وجهة نظره، أضر بالاقتصاد، وحال دون تشغيل آلاف العاطلين عن العمل، مؤكدا أنه رغم الصعاب فإن إدارته تمكنت من إحداث بعض التحسن الاقتصادي في العام الذي شارف أثناء مؤتمره الصحفي على الرحيل.
رغم كآبة المشهد، عربيا وإقليميا ودوليا، على كل الأصعدة، تبقى بوابات الأمل مفتوحة، في عامنا الجديد، و"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"..