انقلبت وزارة الصحة على الأطباء الذين يعدون أهم لبنات النظام الصحي الوطني بعد أن أوهمتهم لفترة طويلة بأنها تقف في صفهم، وأن عدوهم الأول والأخير هو الإعلام والمرضى وذووهم ممن يعتلون منابره لمناشدة سرير أو كشف إهمال وخطأ طبي. انقلبت الوزارة على قادة الفرق الصحية بعد أن جندت جزءا منهم للذود عن حياضها حتى وإن كان الثمن لذلك غاليا كالتضحية بأخلاقياتهم وثقة مرضاهم وطواقمهم بهم.

أجهزت الوزارة على قادة حربها الإعلامية الضروس من الأطباء والممارسين الصحيين بجعلهم المسؤولين الوحيدين عن كل ما يتداوله الإعلام من إهمال وأخطاء لتعزز من الصورة النمطية لفردية الطواقم الصحية. أدارت الوزارة ظهرها للأطباء وطواقمهم، مجددا، باختزال جرائم الإغفال الصحية بالممارسين الصحيين لتخرج نفسها كالشعرة من العجين أو هكذا اعتقدت.

أعلنت وزارة الصحة قبل عدة أيام، أنها لا تتحمل تعويضات الأخطاء الطبية وأن الطبيب يتحملها "وحده" لأنها، كما صرح متحدث الوزارة، تقع نتيجة لإهمال الطبيب والممارس الصحي أو ارتكابه لخطأ في إجراء معين. هذا الإعلان أوجع العديد من الأطباء والممارسين الصحيين الذين لطالما تصدوا للدفاع عن الوزارة، بل وجعلهم في حالة ذهول من هول الصدمة، فالوزارة بإعلانها هذا أكدت وعززت صحة بعض الطرح الإعلامي الذي يختزل قضايا الإهمال والأخطاء في الطبيب، والطبيب فقط!

ومع ذلك فإن ما ذكرته الوزارة موجود في نظام مزاولة المهن الصحية الحالي، والذي تم وضعه بنظرة محدودة وهي فردية الممارسة الصحية، وكأن الطبيب والطواقم الصحية يعملون بمعزل عن النظام الصحي وأجزائه العديدة.

يختزل نظام مزاولة المهن الصحية السياسات القاصرة للصحة وضعف إدارتها ذات العلاقة المباشرة بوقوع الأخطاء والإهمال الصحي في جزء وحيد وهو أداء الأطباء والممارسين الصحيين. هذا الاختزال الذي لم تبذل الوزارة جهدا لتغييره والتعديل عليه، يقوم بحمايتها من المساءلة والمقاضاة، فكيف يتم رفع دعوى على الوزارة وسياساتها وقراراتها التي ساهمت بإهمال أو خطأ الطبيب والنظام بمواده كاملة يختزل الأداء الصحي بالممارس الصحي فقط؟! على الجانب الآخر، فإن طلب التعديل على هذا النظام يفوق قدرات وزارة الصحة، فهي متعثرة تنفيذيا ورقابيا فكيف نطالبها بالتشريعات.

من المفارقات أن وزارة الصحة تدعي توفير رعاية صحية متكاملة وشاملة عبر بناء نظام صحي متكامل كما ذكرت في هدف استراتيجيتها الأول، إذا لماذا تتنصل الوزارة ونظامها المتكامل من الأخطاء والإهمال وتختزله في الطبيب "وحده"؟

لترهل أداء وزارة الصحة أسباب عدة ولكن من أهمها هو ضعف استثمارها بالأطباء وطواقمهم الصحية، وتناسيها أن المنظومة الصحية هي منظومة حية لتقديم خدمات من أحياء لأحياء وقتل معنويات الأطباء والممارسين الصحيين هو الرمح القاتل للخدمات الصحية للمواطنين. إصرار الوزارة على إضعاف معنويات الأطباء السعوديين وحماسهم عبارة عن سلسلة لا تنتهي، فمن الكادر الصحي الموحد غير العادل والطارد للكفاءات مرورا بإضاعة استثمار برنامج خادم الحرمين الشريفين من خريجي التخصصات الطبية والصحية بالإعلان عن تعاقدات غير السعوديين المتكررة، إلى انعدام نظام يكفل حقوق الأطباء والممارسين الصحيين.

أوهمت الوزارة الأطباء بأن عدوهم هو الإعلام والمرضى الذين يلجؤون له لعدم قدرتهم على إيصال صوتهم، مع وجود نظام يكفل لهم ذلك، وغاب عن هؤلاء الأطباء أن الوزارة لم تحترمهم حتى بمادة من نظام تحفظ لهم حقوقهم وسمعتهم من الشكاوى الكيدية ولم تبذل أي جهد بمحاولة إقرار نقابات لهم ولا حتى جمعية أصدقاء للأطباء، بل تنصلت منهم وأدانتهم بإعلانها الأخير، هل علمتم زميلاتي وزملائي الآن لماذا يلجأ المرضى للإعلام؟

الأطباء بحاجة إلى من يعيد مكانتهم لنصابها فهم قادة فرق صحية وليسوا أداة بيد تنفيذي الوزارة تتراشقهم بين المرضى والإعلام للتنصل من مسؤوليتها. الأطباء بحاجة إلى أن تتحمل وزارة الصحة مسؤوليتها تجاههم وتجاه المواطنين بإعادة الثقة التي أسهمت الوزارة بتقويضها بينهم من خلال سياساتها الإعلامية والإدارية. الأطباء بحاجة إلى أن تقوم الوزارة بإشراكهم في صنع القرارات والسياسات عن طريق المطالبة لهم بنقابات للخدمات الصحية وممارسيها وإعادة الأمور لنصابها بمشاركتهم ومشاورتهم لمساعدة الوزارة في تنفيذ استراتيجيتها المتعثرة.

الأطباء بحاجة إلى أن تعيد الوزارة للطب نبله وقداسته وهدفه الإنساني الأساسي بتحفيز العمل الإكلينيكي والبحث الصحي عوضا عن الكساد الحاصل بين خريجي الكليات الطبية والصحية لعدم وجود فرص تدريب تخصصية، وما يقابله من تعزيز لصورة الطبيب الإداري وما يحمله المنصب من مميزات وحوافز بعيدا عن خدمة المرضى وذويهم.

هم بحاجة إلى أن تقوم وزارة الصحة بالاستماع لرأي مستشاريها من كلية الصحة العامة بجامعة هارفارد، التي ذيلت الوزارة به استراتيجيتها بصفحتها 165، والتي نصت على ضرورة زيادة رواتب الأطباء والممارسين الصحيين إذا كانت الوزارة عازمة على تحقيق أهدافها بتحسين الرعاية الصحية للمواطنين.

علاقة المريض مع الطبيب والطاقم الصحي هي الناتج الأساسي لأي منظومة صحية، ومتى ما اختلت وتصدعت هذه العلاقة فهي مؤشر على اختلال أداء النظام الصحي وضعف القائمين عليه، ولذلك فعلى الوزارة تغيير شعارها للمريض أولا والطبيب أولا حتى إشعار آخر.