كان الحديث في الأسبوع الماضي عن الهوية الشخصية من منظورها الأولي المباشر. أي من وعي الفرد باتصال وجوده كذات مستقلّة وثابتة نسبيا رغم كل التغيّرات الفكرية والشعورية والجسدية التي يمرّ بها. أي ما الذي يجعل الإنسان يشعر بأنه هو ذات الشخص الذي يتغيّر ويتبدّل مع الوقت ولكنه لا يفقد وعيه بأن لم يصبح ذاتا أخرى أو إنسانا آخر بالكامل. تحدثنا كذلك عن بعض التصورات التي تحاول الإجابة على ذلك السؤال من خلال افتراض المشترك البيولوجي أو السيكيولوجي أو الروحي. كل هذه التصورات تواجه مشاكل في الإجابة على أسئلة أصبحت اليوم واقعية مع تطوّر تقنية نقل الأعضاء بين الأشخاص. اليوم حديثنا سيكون عن الهوية بمعناها الاجتماعي، أي وعي الفرد بذاته ككائن اجتماعي وسط شبكات من العلاقات الاجتماعية. المقالة ستكون تصوّرا بين طرفي نقيض.
الطرف الأول أن الذات تتكون فرديا وبدون مشاركة اجتماعية حقيقية. بمعنى أن الدور الاجتماعي هنا ثانوي والدور الذاتي هو الجوهري. الطرف الثاني هو دعوى أن الدور الاجتماعي هو الجوهري وأن الدور الفردي هو الثانوي والتابع. التصوّر الذي أسعى لتقديمه هنا يفهم الهوية الاجتماعية للفرد على أنها حالة من التفاعل والجدل بين صورتين أساسيتين لكل فرد، الصورة المباشرة للأنا والصورة المتأمّلَة للذات كما تحققت في العلاقات الاجتماعية. أي الذات كما ترى نفسها مباشرة وكما ترى نفسها في مرآة الآخرين. مجموع هاتين الصورتين هو الذات الاجتماعية وهي ذات ليست منجزة ولا نهائية ولا قبلية بل تفاعلية تنشأ وتتطور داخل التفاعل الاجتماعي. بحسب الفيلسوف جورج ميد فإن الذات تتميز عن غيرها من الأشياء بقدرتها على تأمل ذاتها، أي أن تجعل من ذاتها موضوعا لتفكيرها. هنا الأنا الاجتماعية تصبح ذاتا وموضوعا في ذات الوقت. الجدل بين الذات كفاعل وموضوع هو ما يشكّل مفهوم الذات الاجتماعية.
نعرف من علم نفس الطفولة أن الطفل من سنّ مبكرة يبدأ بالتدريج في تمييز ذاته عن الأشياء الأخرى من خلال التجربة الحسية المباشرة. مبكرا يعلم الطفل أنه يملك القدرة على التحكم في يده ولكنه لا يستطيع التحكّم في الجدار بجانبه. مباشرة تصبح اليد ضمن الذات والجدار ضمن الآخر. مع علاقته مع الآخرين أيضا يبدأ في التمييز بين ذاته والآخرين ليرسم لاحقا صورة محددة للذات تشكّلت بفعل الآخر أيضا. الأم هنا حالة وسط بين الذات والآخر. الأم حالة خاصة فهي جزء أصيل من الذات وحالة استثنائية من الآخر. جوهر الآخرية هنا هو الاستقلال عن الذات والأم غير مستقلة ولا تدفع بالذات للرجوع لحدودها بقدر ما تضمّها وتحاول إدماجها من جديد في استعادة لتجربة الحمل الأولى حين كانت الأم والطفل ذاتا واحدة. مع تطوّر قدرة الانسان اللغوية ينتقل لمستوى أعلى من التفاعل الاجتماعي وهو ما يسمّيه ميد بمستوى "الآخر المعمم" Generalized other.
فكرة الآخر المعمم مهمة، ويمكن توضيحها من خلال أمثلة اللعب. لعب كرة القدم مثلا قائم على عملية مهمة وجذرية، وهي قدرة اللاعب على وضع نفسه في مكان الآخرين. اللاعب المهاجم مثلا يحتاج أن يفهم كيف يفكر المدافع وحارس المرمى. نجاحه متوقف على قدرته على توقّع ما يمكن أن يفعلوه أثناء اللعب. كذلك من الضروري للاعب أن يتصوّر ما سيفعله زملاؤه في الفريق. قدرته على رسم افتراضات قائمة على مواقعهم تحدد قدرته على أن يكون عضوا مشاركا في الفريق. اللعبة هنا ترسم أدوارا عامة للأفراد والمتوقع منهم أن يقوموا بها. إدراك الفرد لشبكة الأدوار هذه يعني قدرته على إدراك الآخرين، لا على أنهم حالات خارجة عن أي سياق، بل على أنهم يقومون بأدوار داخل شبكة عامّة. حياة الفرد الاجتماعية تتطلب مثل هذه القدرة، فمثلا داخل الأسرة هناك أدوار مفترضة لأفرادها، بينما تختلف الأدوار ضمن إطار الصداقات، وكذلك داخل علاقات العمل.. إلخ. بحسب ميد الذات الاجتماعية تتأسس أولا في كل دائرة لكنها لا تكتمل إلا بإدراك الدائرة الكبرى، الدائرة الاجتماعية.
اللغة هي اللعبة التي يشارك كل أفراد المجتمع فيها ويتواصلون من خلالها. من خلال اللغة يتحدث الفرد لنفسه كما يتحدث للآخرين. اللغة هنا هي قالب من الرموز والكلمات للعلاقات الاجتماعية. داخل هذه الشبكة اللغوية ينشأ الحوار بين الأنا المباشرة وبين الأنا المنفعلة داخل العلاقات الاجتماعية. الأنا كما نطلقها والأنا كما نستقبلها. هذه الصورة برأيي مهمة جدا للوعي بقضيتين أساسيتين: الأولى أن الصورة التي نملكها عن ذواتنا هي صورة تم تأسيسها ضمن شبكة علاقات اجتماعية معينة، وبالتالي فإن تغيير العلاقات الاجتماعية يؤدي كذلك لتغيير الصورة التي يرى الإنسان فيها ذاته. إذا كانت جماعة ما تؤسس في داخلنا ذاتا محبطة مقيّدة، فإن التواصل مع جماعة أخرى قد يؤسس تصورا مغايرا للذات. هذا مبدأ أساسي لتحديد العلاقات الاجتماعية التي ينتمي لها الفرد. اختر الجماعة التي تساعدك على أن تكون حياتك أجمل، واترك تلك التي تعيق مشروع حياتك. المجتمع الحر يجعل هذه الحركة أسهل وأكثر مرونة على عكس مجتمعات الاستبداد والقمع. القضية الثانية هي أن الجماعة ليست هي من يلعب الدور الأساسي والنهائي. التحليل أعلاه يشير إلى أن الفرد لا بد أن يتقمّص الأدوار داخل الجماعة ليتأثر بها وتتأثر به.
هذا التقمّص، خصوصا للبالغين، يجعل من الدخول في شبكة ما قرارا شخصيا، كما يشير إلى إمكان التغيير داخل هذه الشبكات. الفرد داخل العلاقات الاجتماعية يقوم بدور أساسي وجوهري فهو من يتقمّص ويقبل وقد يرفض الأدوار المعدّة سلفا داخل العلاقات الاجتماعية. حركة المجتمعات وتغيّر الأدوار داخل أفرادها مع الزمن مؤشر على أن المجتمعات قابلة للحركة والتغيير وأن دور أفراد الجماعة مهم في تحديد وجهة هذه الحركة.