دائماً ما تؤكد الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة) في العديد من المناسبات، عدم وجود أي ازدواجية أو تشابه في الاختصاصات فيما بينها وبين ديوان المراقبة العامة، حيث إن المادة الرابعة من تنظيم الهيئة تنظم العلاقة بينها والجهات الرقابية الأخرى، وتراعي عدم الازدواجية وعدم قيام جهتين بعمل واحد.
وذكرت الهيئة بأن ديوان المراقبة يقوم بمراجعة صرف المال العام في مصارفه الشرعية، وبمتابعة المخالفات المتعلقة بهذه الجوانب، وبالتالي فإن "نزاهة" لا تواجه أي مشكلة تتعلق بوجود تداخل أو ازدواجية في الصلاحيات والمسؤوليات، حيث إن العلاقة بين الجهات الرقابية محكومة بالنصوص النظامية ذات العلاقة!
وبالرغم من الوجاهة المنطقية لرأي "نزاهة" السابق، حيث يمكن قبوله نظرياً، إلا أن المتتبع للقضايا التي اكتشفتها الهيئة في بعض الجهات الحكومية، وكذلك الصعوبات والمعوقات التي تواجهها، يستطيع القول بأن هناك بالفعل ازدواجية بينها وبين ديوان المراقبة العامة.
ولنبدأ أولاً بازدواجية المهام، فعلى سبيل المثل، قامت الهيئة مؤخراً برصد ومتابعة ظاهرة الازدحام المروري على جسر الملك فهد، وكانت النتائج تتمثل في نقص الكوادر العاملة بإدارة الجوازات، وقلة تواجد سيارات المرور الميدانية، بالإضافة إلى وجود ملاحظات أخرى، وقامت الهيئة بهذه المهمة بناءً على دورها في مباشرة بلاغات المواطنين التي تتلقاها عن قصور أو إهمال في تنفيذ الخدمات المباشرة ومتابعة توفيرها حتى تصل إلى أفضل مستوى، وهذه المهمة في الحقيقة تدخل ضمن نطاق مهام ديوان المراقبة العامة والمختص في الرقابة على الأداء، فالديوان وفقاً لاختصاصاته مسؤول عن تقييم مدى كفاءة الجهات الحكومية وقدرتها على تقديم الخدمات التي تتولى مسؤولية توفيرها للمواطنين، وبالتالي فإن الديوان ليس مسؤولاً عن صرف المال العام في مصارفه الشرعية فقط كما يشاع من قبل "نزاهة"، وإنما أيضاً مسؤول عن تقييم أداء الخدمات العامة.
وفي المقابل أيضاً، أين هي شبهة الفساد في تقصير أو إهمال إدارة الجوازات وكذلك المرور؟ فالتعريف الدولي للفساد كان محدداً بأنه يعني استغلال السلطات والصلاحيات للتصرف بالمال العام بما يخدم الأغراض والمنافع الشخصية، فهل وجدت "نزاهة" مثل هذا الاستغلال في الإهمال والتقصير؟
قد يقول قائل: إن من اختصاصات الهيئة "متابعة تنفيذ الأوامر والتعليمات المتعلقة بالشأن العام ومصالح المواطنين بما يضمن الالتزام بها"، وعليه فإن الهيئة مسؤولة عن تقييم الخدمات العامة ومدى التزام الجهات الحكومية بالأوامر والتعليمات، وأقول إن هذا الكلام صحيح في مجمله، ولكن يجب أن يكون تحت إطار تحري أوجه الفساد عند عدم الالتزام بالأوامر والتعليمات. وهذا ما ينطبق أيضاً على طلب "نزاهة" من الجهات الحكومية تزويدها بنسخ من عقودها واتفاقياتها، فهذا الأمر من اختصاصات ديوان المراقبة، فهناك إدارة مختصة في الديوان بمراجعة هذه العقود، كما أن رقابة الأداء تقوم أيضاً بتقييم أدائها ميدانياً، فهل تقوم "نزاهة" بهذا الدور أيضاً وتراجع العقود وأداء تنفيذها؟ أم أن المطلوب منها حسب ما جاء في تنظيمها تحري أوجه الفساد المالي والإداري في هذه العقود؟
أما فيما يتعلق بالمعوقات والصعوبات التي تواجهها "نزاهة" فهي لا تكاد تختلف عن المعوقات نفسها التي تواجه ديوان المراقبة، والتي من أبرزها: عدم رد بعض الجهات الحكومية على استفساراتها وملحوظاتها، وحجب المعلومات والبيانات عنها بحجة أنها سرية، وعرقلة عمل ممثل الهيئة مثل المطالبة بخطابات مباشرة للجهة أو الانتظار حتى الاستئذان من الجهة الرئيسية مما يفوت على الهيئة الاستفادة من عنصر المفاجأة لضبط ما يلزم من مستندات وأدلة، بالإضافة إلى قيام بعض الجهات بإحالة ملاحظات الهيئة للمسؤول أو الفرع الذي وقعت فيه المخالفة للرد عليها ثم إحالة الرد إلى الهيئة دون إيضاح رأي الجهة الرئيسية والوزير المختص.
وبناءً على ما سبق، نجد أن المعوقات التي تواجه الهيئة هي نفسها التي تواجه ديوان المراقبة، وذلك في رأيي راجع إلى الازدواجية في المهام بين الديوان والهيئة، ومهما حاولت الهيئة نفي ذلك نظرياً، إلا أنها لا تستطيع نفي ما يحدث على أرض الواقع.
وبعض الجهات الحكومية، أدركت هذه الازدواجية فتعاملت مع الهيئة كما تتعامل مع الديوان، مستغلةً في ذلك وجود الخلل في منظومة المساءلة ككل، وضعف تقنيات وآليات مكافحة الفساد، فتحوّل عمل "نزاهة" إلى عمل بيروقراطي بحت.
فمن الطبيعي أن تحجب الجهات الحكومية معلوماتها وبياناتها، وعند إجراء التحقيقات من قبلها في قضايا الفساد، فهي تحاول قدر المستطاع تحجيم هذه القضايا وبكل الوسائل المتاحة لها، وذلك حفاظاً على سمعتها، وخوفاً على مناصب بعض المسؤولين فيها، ناهيك عن ممارسات "مافيا الفساد" والتي تحاول ابتكار وسائل جديدة لمواجهة أية أنظمة أو تقنيات حديثة يمكن أن تكشف ممارساتها وتعرضها للمساءلة والمحاكمة.
ومع ذلك، فإن تعامل الجهات الحكومية هو تعامل بيروقراطي ساذج وكان فعالاً في التصدي لجهود مكافحة الفساد وبكل سهولة، الأمر الذي يدعو إلى إعادة النظر في المهام التي تقوم بها "نزاهة"، وكذلك النظر في آلياتها وتقنياتها، والنظر أيضاً في تعزيز مفهوم المساءلة في ديوان المراقبة العامة.
فعند تطبيق مفهوم المساءلة، فلن تستطيع أي جهة حكومية حجب المعلومات ولن تستطيع عرقلة ممثلي الأجهزة الرقابية، ولو قامت بذلك سوف تفقد الثقة والمصداقية في تقاريرها المالية والإدارية، وعند تطبيق الآليات الحديثة في كشف الفساد وإجراء تحقيقات مستقلة من قبل "نزاهة"، فإن أية عرقلة لذلك سوف تضعف من موقف الجهة قضائياً، وتوسع من دائرة التحقيقات وتبعات المسؤولية، وإلا فليتحول اسم الهيئة إلى "ديوان النزاهة العامة"، أو تدمج مع ديوان المراقبة أو العكس!! فلا جديد في مكافحة الفساد ولا جديد في تطبيق مفهوم المساءلة، وكأن لسان حال الفاسدين يقول: "شكراً لنزاهة، وشكراً لديوان المراقبة"!