خلال زيارته الأخيرة للمملكة، وصف الرئيس الفرنسي (فرانسوا هولاند) العلاقات الفرنسية السعودية بـ"التاريخية"، وقال إنه خلال اجتماعه مع خادم الحرمين الشريفين تطرقا إلى الجوانب المشتركة بين البلدين ومنها الجانب الثقافي، فعلى الصعيد العلمي والثقافي "هناك أهداف محددة سننفذها قريباً جداً، بدءاً من تعلّم اللغة الفرنسية، ومشاريع معهد العالم العربي إلى آخره" وهذا يشير إلى تقارب ثقافي سعودي فرنسي أكثر من ذي قبل.
صحيح أن العلاقات السعودية الفرنسية قديمة ومتجددة في الوقت ذاته، إلا أن الحاجز الثقافي المتمثل بـ"اللغة" يعتبر أحد أهم أسباب الفتور -إن جاز التعبير- بين ثقافتي البلدين، على الرغم من طلائع المبتعثين السعوديين إلى فرنسا، وكذلك اهتمام كثير من الباحثين الفرنسيين بما يجري في السعودية من تغيرات وتطورات على الصعيد الفكري والثقافي والاجتماعي.
وبما أن اللغة من أهم مكونات الثقافة؛ فإنها ستكون الأكثر حضوراً في هذا التقارب السياسي بين البلدين، وبذلك ربما تجد ثقافة كل بلد حضوراً أكثر لدى البلد الآخر، فعلى الرغم من وجود اللغة الفرنسية كتخصص في كليات اللغات والترجمة السعودية، إلا أنها لا تسجل حضوراً قوياً كما حضورها في البلاد العربية الأخرى مثل مصر، سورية، لبنان، تونس، الجزائر والمغرب، وموريتانيا؛ وتلك نتيجة للارتباط التاريخي بفرنسا خلال حقب الاستعمار والارتباط الذي أعقبه، أما في بلدان الخليج العربية فحضور اللغة الفرنسية قليل قياساً بالإنجليزية، وذلك نتيجة للوجود الاستعماري البريطاني سابقاً والعلاقات السياسية والاقتصادية اللاحقة ببريطانيا والولايات المتحدة.
يجب أن لا تغفل الثقافة الفرنسية عن أن لغتها تأتي ثانياً من حيث الاستخدام العالمي بعد اللغة الإنجليزية، غير أن وجودها -كخيار ثانٍ- في التعليم لدينا سوف يثريها ويثري المتعلم على حد سواء، ويوسع الآفاق المعرفية ويتيح فرصة كبرى للتواصل الثقافي، على الرغم من أن اللغة الفرنسية لدى السعوديين حالياً تسير في إطار ضيق جداً، إلا أنها قد تشق طريقها إلى الانتشار، وخاصة أن التعدد اللغوي بات أمراً ضرورياً لمكافحة الأميّة والنمطيّة الثقافية وتكريس التواصل الثقافي، وهذا الأمر يبدأ خطوته الأولى من أروقة التعليم.
غير أن تعلّم اللغة ليس كافياً للثقافة كي تمتد أفقياً وتنتشر، بل لا بد من وجود الأفراد الفاعلين (المثقفين) والمؤسسات النشطة (الروابط الثقافية) التي تتجاوز اللغة إلى الفكر، بمعنى أن يعرف الفرد الفرنسي نظيره السعودي وما هي الأمور التي تشغل تفكيره، وفي المقابل يتعرف الفرد السعودي إلى طريقة تفكير الفرنسي ورؤيته الثقافية، وهذا لا يتأتى من خلال تعلم اللغة وحدها، بل يتجسد بقوة عبر حركة الترجمة من جهة، واللقاءات الثقافية من جهة أخرى، فإن كان اختلاف اللغة حاجزاً، فلن يكون التواصل الإنساني مستحيلاً بوجود حركة الترجمة.
وهذا يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن الثقافات تصاب بالذبول والفقر إذا لم تجد طريقاً للاحتكاك والتواصل فيما بينها فيحدث الانغلاق، بينما نجد أن الانفتاح أمر مهم لإثراء الثقافة، وهذا ما اقتنعت به الدول العربية وفرنسا ليتم تأسيس مركز ثقافي جاء نتيجة تعاون بين فرنسا و 22 دولة عربية من ضمنها المملكة، وأعني به "معهد العالم العربي في باريس" نتمنى ألا يفقد دوره وإشعاعه الثقافي، وفي هذا الصدد أتذكر أني خلال زيارة لمعهد العالم العربي في باريس سألت مديرته الدكتورة منى خزندار عن إمكانية افتتاح فروع للمعهد في بعض الدول العربية. ورغم أهمية هذا الأمر إلا أني أعتقد الآن أنه حتى لو افتتح فرع لمعهد العالم العربي في السعودية فإنه ليس كافياً لتكريس التواصل الثقافي، ما لم يكن هنالك تواصل ثقافي نشط بين الثقافتين السعودية والفرنسية، من خلال المؤسسات الأكاديمية ومؤسسات المجتمع المدني الثقافية، وكذلك على الصعيد الاجتماعي من خلال تواصل المثقف الفرد الذي يسهم بصياغة الرأي العام في البلدين.