جمانة، ابنتي ذات الثلاث سنوات، يمضّني الحنين لها وأنا في العمل أو خارج المنزل، ويخفق قلبي تتيماً وشوقا إليها، وأتلهف للعودة كي أغيب في عالم آخر، وأنا أضمها لصدري، وألثم يديها الصغيرتين ووجناتها الغضة، فللبنات في هذا العمر -وبقية أعمارهن حتى لو تزوجن- طعم ومشاعر أبوّة غامرة، لا يعرفها إلا أبّ..

كنت أهجس في خيالات سوداء، وأنا أضع أميرتي جمانة مكان الابنة لمى الروقي، وهي غائبة في تلك الحفرة المظلمة، تقاسي الرعب والظلام والجوع، فيما الكدمات والجروح تنهش جسدها الصغير. انتفضت من هول المشهد، ووالله لشعرت بنياط قلبي تتمزق ألما، ووجمت من فرط الذهول، وأنا أسترجع وأحوقل من ذلك الكابوس، الذي كان -للأسف- حقيقيا لوالد ووالدة لمى، بل أزعم أن المجتمع تابع بكل الألم تلك المأساة الإنسانية المروعة التي ألمّت بابنتنا الفقيدة، وهي تقضي في حفرة الموت تلك، محتضنة بكل براءة الأطفال دميتها، ويقينا بأن كل أبّ في هذا الوطن، تذكّر أحبّ بناته في مكان لمى، وجثمت عليه ذات المشاعر التي دهمتني.

اتصل بي أستاذنا وزميلنا في هذه الصحيفة د. علي الخبتي، والكلمات تتحشرج في فمه، ويصرخ ويقول: والله إنني بكيتها، ولم أستطع النوم، وعفت الطعام بسبب تلك الزهرة الصغيرة. أريد أن أسألك من هو المسؤول عن عدم إنقاذها، ولماذا لم يستطع رجال الدفاع المدني وكل هذه الإمكانات لديهم إنقاذها؟ استرسل د. الخبتي في حديث ملؤه الفجيعة والألم والتحسّر على فقداننا لمى، بينما كنت أعود لحوادث عديدة مرت على المجتمع، وفقد أحبة وغالين بسبب عدم نجدتنا لهم، وتأخرنا في إنقاذهم بسبب ضعف تأهيل رجال الدفاع المدني، أو عدم توافرهم على الأجهزة الحديثة المعينة لهم.

الطفلة لمى قضت، وأسأل الله أن تكون فرطا لوالديها بالجنة، والكتابات من الزملاء بالصحافة أو في مواقع التواصل الاجتماعي تتوالى بقسوة على مديرية الدفاع المدني، بحجم المأساة التي عشناها والطفلة البريئة، ومن الضروري أن يتسع صدر اللواء سليمان العمرو وأفراده لكل هذا النقد، الذي يترجم مشاعر كتّابها تجاه الكارثة، فضلا على أن دافعهم مصلحة الوطن، لئلا تتكرر الأخطاء والتقصير في حوادث مماثلة لا سمح الله. أطلب من اللواء العمرو وبقية رجال دفاعنا المدني الأحبة، الذين بذلوا ما يستطيعون بحسب إمكاناتهم، أن يصبروا على النقد العنيف للجهاز، والإفادة من كل الملاحظات والنصائح التي يوجهها الكتبة حيال أداء أفراد الدفاع المدني، فكل الحبر لتلك الأحرف الحمراء التي تطالعونها؛ إنما هو نزيف مشاعرنا من وحي الألم والفجيعة لما آلت لها تلك الحادثة، وخاتمتها المروعة.

في مقابل ذلك، من الضروري أيضا أن تكون ردة فعلنا إيجابية تجاه ما حصل. أتذكر هنا جيدا، حادثة سيول جدة الأولى، وغرق حي "قويزة" 1430 الذي هدم بيوتا عديدة، وكان قتلى السيول إذاك بالمئات، وكان تعامل رجال الدفاع المدني وتلك السيول محبطا جدا، عبر التخبط الكبير الذي وقع فيه، وانعدام التنسيق مع بقية الأجهزة الأخرى، وكثير من السلبيات التي رأينها عيانا.

الحقيقة أن الدفاع المدني أعاد تنظيم نفسه، وصوّب بعض أخطائه وعالجها، ورفع من قدرات أفراده، وظهر أثر تلك التدريبات جلية في سيول "حي النخيل" وقتما انهدم سدّ "أم الخير" في 1432، ورأينا أن ثمة تطورا لافتا في أدائه، مقارنة مع سيول "قويزة"، وانخفض عدد القتلى إلى شيء يسير جدا والحمد لله، بيد أنها كانت مقارنة مع التي قبلها، لا التي نتوسم أن تكون عليها، وهي بالتأكيد لا ترضينا أبدا، ولكنها كانت خطوة في الاتجاه الصحيح. ثم رأينا استبسالهم في مناطق سيول أخرى كتبوك والطائف وحائل، ومن الظلم الكبير أن نصمهم بالعجز والتهاون، بل رأينا صورا مشرّفة لأولئك الرجال وهم يبذلون أقصى ما لديهم.

ما أود تسجيله هنا: من الضروري ونحن نجلد مديرية الدفاع المدني، ونحملها التبعات والأخطاء، ونصرّ على محاسبة المقصرين، أن نطالب في مقابل ذلك برصد ميزانيات مالية جديدة، ونؤكد على المسؤولين؛ إضافة عناصر عالية التدريب والتأهيل، وابتعاث أعداد مناسبة لأفراد الدفاع المدني للدول المتقدمة في هذا المجال، كي يدرسوا ويطالعوا خبراتهم وكيفية إدارتهم لجهازهم، وكيف يتصرفون إزاء الحوادث النادرة، كالتي حصلت للابنة لمى الروقي، إذ لا يكفي جلد أحبتنا هؤلاء فقط، دون الكشف عن الثغرات في الجهاز، والمطالبة بإصلاحها، ومساعدتهم على ذلك.

ثمة نقطة مهمة يجب التأكيد فيها على دفاعنا المدني، تتمثل في القيام بالتنسيق مع بقية أجهزة الدولة، وخصوصا الجيش، وذلك بعمل تدريبات مشتركة معها، ومناورات مكثفة، بغية إيجاد تنسيق عالي الرتم. ففي الكوارث والأزمات التي تفجؤنا؛ ليس من العيب أبدا، أو التنقيص من أداء الجهاز، الاستعانة بسلاح المهندسين في الجيش مثلا، فكثير من المراقبين المتخصصين الذين حللوا أسباب كارثة سيول جدة، عندما توقف تدفق سير السيارات، لانهدام بعض الكباري ووجود عوائق خرسانية ضخمة جرفها السيل للطرق الرئيسية، التي شلت وقتذاك سير السيارات، التي غرقت تاليا في السيل، وكانت عائقا أمام وصول آليات ومراكب الدفاع المدني، إذ لو تدخل سلاح المهندسين بالجيش، وأزال بمركباته وجرافاته الضخمة تلك العوائق الخرسانية أو السيارات المتعطلة، أو فتح طرقا جديدة بديلة عن الجسور، لكان الضرر أخف كثيرا.

لنجعل من الشهيدة لمى الروقي نقطة انعطاف فاصلة في دعم جهاز الدفاع المدني، والمطالبة بتطويره، فذلك خير للوطن، بدلا من العويل والتفجع فقط.