بعد أيام من انتهاء الحرب العالمية الثانية في ربيع 1945، بدأ أهالي قرية "فلا سلا" التي تبعد عدة أميال من مدينة ريجيو إميليا في إيطاليا بعمل خلاق ومبدع، فبعد الخراب الذي خلفته الحرب قرر رجال ونساء القرية بناءَ مدرسة لأطفالهم، فبدؤوا العمل بأموال حصلوا عليها من بيع دبابة وشاحنات وخيول تركها الألمان إبان انسحابهم.. أنجزوها وكتبوا على مدخلها هذا النص المثير :"بعملنا سوياً رجالاً ونساءً، بنينا جدران هذه المدرسة لأننا أردنا مكاناً جديداً ومختلفاً لأطفالنا".

وبعد سنوات أصبح "لوريس مالاجوزي" الأب الروحي لهذه المدارس "بقيادته" وتوجيهه لطاقات هؤلاء الأهالي؛ مما أهله لإعداد المعلمات وأخذ دور القائد التربوي ليس في بلدته فقط بل على مستوى إيطاليا والعالم كله!، يقول مالاجوزي: "أنا محظوظ لأنني أذكر القصة كلها بوضوح، لقد كانت الأخبار أن سكان (فلا سلا) بدؤوا بناء مدرسة للأطفال، كانوا يأخذون طوباً من البيوت المهدمة بالقنابل ويستعملونها لبناء جدران المدارس، لقد نُسفت أفكاري؛ ففكرة أن بناء مدرسة ستتجلى لأناس عاديين ونساء وعمال ومزارعين كانت بحق صدمة بالنسبة لي!، أما الصدمة الثانية فإن هؤلاء الناس كانوا يعملون سوياً ويبنون المدرسة طوبةً طوبةً دون مال أومساعدة فنية أوسلطة ولجان ومشرفي مدارس، أو قيادات حزبية. لقد قلب ما فعلوه المنطقَ والتحيز والقواعدَ القديمة للتعليم والثقافة رأساً على عقب، وأعادوا كل شيء إلى المربع الأول، وفتحوا آفاقاً جديدة تماماً. أدركت حينها أن هذا درسٌ إنساني وثقافي هائل يمكن أن تنبثق منه أمورٌ فائقة، فكل ما احتجنا إليه جمع الطاقات والعمل سوياً".

تلك المدرسة كانت اللبنة الأولى في منظومة أنموذج مدارس ريجيو إميليا (التمهيدي) التي بدأت بحس جماعي وغرض مشترك؛ حيث التعاون والتفاعل بين الأفراد والمجموعات صغاراً وكباراً، والفلسفة التي أصبحت أساس نظام ريجيو إميليا برزت من النظرة الاجتماعية الثقافية، فقد أصبحت المقاربة البنائية الاجتماعية للتعليم، والمستوى العالي من المشاركة الاجتماعية في مدارس التمهيدي، والتركيز على التعاون بين الأطفال والمعلمات والعوائل والمجتمع مع تطبيق فلسفة تحمل صورة للطفل كصاحب كفاءة مليء بالأفكار، وأنه صاحب (حقوق) بدلاً من احتياجات، مع بناء "علاقات" تبنيها بين الأطفال والمعلمين الذين يحتاجون أن يتمكنوا من التواصل مع (محاولات) الأطفال في تكوين المعرفة (بأية) طريقة يستخدمونها، أو في التعبير عنها أي كما يرونها تماماً، وأن يتفاعلوا مع ما ينتاب الأطفال فكريا وشعوريا، فييسر المعلم العملية التعليمية بالاستماع والإنصات باهتمام للأطفال، وتصميم وسائل للمزيد من الإثارة لأفكارهم وعملهم وتقييم كيف يستطيعون التعلم فيها دون ضغط، أو قولبة، أو وعد بالمكافآت! مع أهمية وجود مخزون معرفي وعلمي كافٍ لدى المعلم نحو ما يستطيع الأطفال القيام به، بل يصل أن يتساوى معهم في أن يكون متعلماً ومكتشفاً مثلهم، مع تهيئة للبيئة التعليمية الخصبة وتصميمها بعناية كي تكون شريكاً للمعلم، فمثلا تجد أن جميع الأعمال والمشاريع في المدرسة من صنع الأطفال فقط، وليست (لخطاطين) بلوحات (تغرير) وعبث مشاريع ذيلت بعمل الطالب وإشراف الأستاذ!.. أما المساحات التعليمية فليست غرف تدريس عادية (كعلب الساردين)، بل مساحات أشبه بمعامل وورش عمل (Workshop) ينتظم فيها ما لا يزيد على 24 طفلاً، ويخصص لكل مجموعة مدرسان وفنان واحد، ويعمل الأطفال في المدرسة على مشاريع جماعية مشتركة باهتمام وانغماس بعملهم وفي مساحات مفتوحة واسعة يتحركون فيها، تسمح لهم بالتنقل وبشكل دائري من مساحة إلى أخرى، أما جدران المدرسة فهي ألوان فاتحة جداً تسمح بأن يكون الأطفال أنفسهم وملابسهم جاذبة أكثر من جدران المدرسة!

التركيز على البراعم القابلة للنمو أفضل كثيراً من تلوين الأزهار الذابلة، ففي تلك المدارس الأطفال يبنون معرفتهم بأنفسهم، والمعرفة لا يتم توصيلها أو إرسالها لهم، ولا يتم إملاء ما يفكرون به من قبل المعلم، بل إنهم يكدون ويناضلون من أجل فهم العالم وفهم كيف يرتبطون به، وهم يفعلون هذا بشكل جماعي، فهم يصنعون إنسانيتهم بأنفسهم من خلال بناء أنفسهم.

قد نغبط تلك المدارس وأطفالها، ونتمنى أن يكون لأطفالنا السعوديين نصيب مثلهم من "الحياة وتكوين الإنسان"، ولعلها "بدءاً" تلفت سمو وزير التربية والتعليم الأمير خالد الفيصل، تطبيقاً وتوافقاً مع أولى خيوط رؤيته نحو تعليمنا: "مهمتنا هي مساعدة الإنسان منذ بداية حياته؛ ويكون طفل اليوم هو القوي الأمين غداً، ونفعل ما في وسعنا، لأن ننشئ أجيال الغد الأقوياء الأمناء".

ولأن: "الجميع مسؤول عن التعليم، وكل مسؤول في هذه البلاد يجب أن يساهم في إصلاح التعليم، ويكون المشروع مشتركاً لننشئ جيلا ينافس العالم في مجالات العلم كافة".. نعدك "وزير المستقبل" بأن نكون مسؤولين مثلك وشركاء لك في بناء مستقبل أجيالنا وخارطة وطننا.