كان يُمكن أن يمر إعلان دمية (أبلة فاهيتا) الذي تبثه إحدى شركات الاتصالات المصرية مرور الكرام، لولا البلاغ الذي قدمه ناشط يدعى "أحمد سبايدر" للنيابة العامة اتهم فيه الشركة باستخدام شفرات لتنفيذ هجمات إرهابية بالإعلان الذي نشر عبر الإنترنت فقط، وخلال أيام حقق خلالها نسبة مشاهدة هائلة، وسألت الناشط فروى بداية اهتمامه بالأمر، بعدما رصد تعبيرات غاضة وبعض المصطلحات التي تحتمل تفسيرات خارج نطاق الدعاية التجارية، ووجود رموز ماسونية، وأخرى مرتبطة بأنصار (الأناركية) وهي نظرية ترفض السلطة العامة، ونمط إدارة المجتمع بواسطة الدولة ومؤسساتها.
ناقشت الناشط واطلعت على أسانيده التي تعاملت معها الأجهزة السيادية والنيابة العامة بجدية، وأحال النائب العام البلاغ لنيابة أمن الدولة العليا، لتحقق في اتهامات الناشط للإعلان بأنه يتضمن شفرات منها وجود حرف (A) على شجرة الكريسماس الذي يمثل (رمز الأناركية)، كما أن الشجرة من الصبار وتتضمن أربعة أصابع وهي (إشارة رابعة) التي يستخدمها أنصار الإخوان، مع وجود مصباح أحمر اعتبره شفرة لقنبلة، والمُثير أنه خلال بث الإعلان وبعده وقعت عدة عمليات إرهابية كتفجيرات ومحاولات اغتيال ومواجهات دامية.
توقفت سخرية المصريين فجأة بعدما نشرت عدة صحف دولية تقارير عن قضية (أبلة فاهيتا) منها "الواشنطن بوست" ووكالة "الأسوشيتدبرس" وفضائية (CNN) حتى هيئة الإذاعة البريطانية الرصينة (BBC) والصحف والفضائيات المصرية، وهكذا تحولت النبرة الساخرة لأسئلة شائكة طرحتها وسائل الإعلام، واشتعلت الحوارات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وصارت "حديث الشبكة".
تقودنا هذه الواقعة المُثيرة لما اصطلح على تسميته (الجيل الرابع من الحروب) 4GW التي تستهدف إنهاك واستنزاف قدرات الدولة وزعزعة استقرارها باستخدام منظومة الإعلام الجديد وأبرز أدواتها شبكات التواصل الاجتماعي، وصولا لبرامج الترفيه والسخرية التي تبدو بريئة، لكنها تلعب دورا في هذه الحروب التي يبدو أن مصر ودول المنطقة تواجه (حروب 4GW) وتسعى لفرض (سايكس/ بيكو 2) بعدما تبنت واشنطن وحلفاؤها رؤية استراتيجية مفادها أن دول المنطقة لا ينبغي استمرارها بأحجامها الراهنة، وبالتالي يجب تفتيتها بدفعها لصراعات داخلية تُفضي للتدمير الذاتي، باستخدام تكتيكات حروب العصابات وجماعات لديها ميول انتحارية تتألف من عناصر إرهابية متعددة الجنسيات.
تجدر الإشارة إلى أن الدوائر العسكرية الأميركية بدأت التفكير بجيل (حروب 4GW) عقب هزيمتها في حرب فيتنام، وأسباب انتصار دول ضعيفة على قوى عظمى وعادت للتفكير بالأمر بعد أحداث 11 سبتمبر حين واجهت أميركا (اللا دولة) وتنظيمات منتشرة حول العالم، وهكذا تبلورت فكرة الحرب اللا متماثلة (Asymmetric Warfare)، التي تستخدم العملاء المحليين والإعلام الجديد ومنظمات المجتمع المدني، وعمليات استخبارية لمواجهة (عدو انتحاري) بطبيعة تفكيره فلماذا نقتله بالرصاص، بينما سيأتي استثمار تكلفة متواضعة لدعم الإعلام التحريضي والانتقائي والشائعات بنتائج كفيلة بانهياره وتفكيكه لكيانات متناحرة.
وبعدما تكبدت واشنطن فواتير ثقيلة بحجم خسائرها البشرية والمادية في "الجيل الثالث للحروب"، الذي تبناه بوش الابن المعروف بالحروب الاستباقية ضد (تنظيم القاعدة) بأفغانستان والعراق، فإنها ابتكرت منهجا جديدا يكفل تفتيت الدولة، فتنقسم مؤسساتها السيادية كالجيش والشرطة والقضاء، ويستعر الاقتتال الداخلي، وتتصاعد "دعاية سوداء" ترسمها الاستخبارات فضلا عن زرع العملاء حتى ترسخ مناخا عدوانيا داخل الدولة ومؤسساتها ونسيجها الوطني يؤدي للاحتراب الأهلي.
وأخيرا، نعود لقصة "أبلة فاهيتا" التي كان ظهورها الأول عام 2010 قبيل ثورة 25 يناير، لكنها لم تلفت انتباه أحد لكن الجهة الوحيدة التي انتبهت لها هي المؤسسة العسكرية المصرية وأجهزتها الاستخبارية، حيث اتخذت عدة إجراءات احترازية كحماية أنظمتها المعلوماتية والتحامها بالشعب وتحملت الإهانات حتى لا تفقد العلاقة الوثيقة تاريخيا مع الشعب، فالوفاق الوطني يحميها على المستوى المعنوي، بدرء الشائعات السلبية، بالإضافة للارتقاء بالكفاءة القتالية والتخطيط الاستراتيجي الجديد.. كل هذا يعمل بتناغم للتصدي للجيل الرابع من الحروب، عبر منظومة أفسدت مخططات خبيثة، سيتكفل المستقبل بكشف مدى خطورتها.