لم يعد الزمان هو الزمان، بالرغم من أن المكان هو المكان. عصر جديد حمل معه غثاء وقاذورات، إنها متدفقة آتية من بعيد. في زماننا كانت السيول حينما تداهم المزارع تترك وراءها ما يسمونه بـ(السافي)، وهو مخلفات هذه السيول من رمال (بطحاء) وغثاء وما إلى ذلك، ويقال إن تلك الرمال محرقة للعيون من شدة رياح السموم، إلا أنه في مقامنا هذا؛ هو ما تحمله السيول من غثاء ومن رمال، ويلقون في إزالتها أشد العناء؛ إلا أنه لا بد من نزحها وإزالتها لأنها لو بقيت فستفسد الزرع والضرع.. هكذا يقولون.

من أين أتت لنا هذه الجفوة والقسوة من الأبناء، فلم أر أبا، أو أما إلا وقد غدقت جفونهما بملح الدمع المحرق للجفون، بالرغم من أنهما يبذلان لأبنائهما ما لم يكن يُبذل لنا، إلا أننا كنا نفرش هدبنا لأحذيتهم طاعة وحبا وخوفا من اللوم، فكان اللوم هو ما يقض مضجع العربي يخافه ويتقيه، ولم يكن بدافع الوعظ، فقد كنا صغارا لا نفهم إلا أداء الفرائض والمناسك. وكنا نعتبر أن طاعة الأب والأم حبا وشرفا. كنا نخاف العيب ـ الشرهه ـ فإذا عق ابن أباه أو أمه، لم تكلمه البشر ولا يرد عليه السلام أحد، ولا يقر في عين رجل ولا امرأة ولا صبي؛ فنراه يطوي البراري والقفار:

"يكلم الوحوش من سباع وضباع وحُمُر، يحصي النجوم فلا يجد. ما للثريا من أثر. يمد كفا خاملا لكل عراف عَبَر، وكل سراب بقيعة صار بعينيه بصر. يدس رأسا في التراب كأن مساً له عَقَر. لا بد يرجع لهم بلين ودمعه كما المطر".

هذا هو لب القضية. أباؤنا كانوا هم من يزيلون (السافي) بأيديهم؛ بل ويتكاتف جيران مزارعم كل مع الآخر حتى تعود المزارع صافية لينة معطاءة، تحلب الخير في جوف العباد، فهي لا تقبل السافي المقحم عليها من غير طينهم.

والسافي اليوم شديد! نعرات الأبناء والكبرياء التي تتلبسهم! فإذا قبَّل الابن يد أبيه اعتبره تفضلا أو منّة، وكأنه لا يعلم أن هذا الذي يقبّل يده لا ينام ليلة وهو يشتكي ولا يأكل لقمة إلا بعد أن يتأكد من أن ابنه قد فاض من الزخم والتخمة.

لا يعرفون أن الحب في هذا الزمان أصبح شحيحا شديد الندرة؛ فلم نعد نعهده في يومنا هذا سوى في قلوب الآباء والأمهات! لم يعد هناك ما يحمي الحب في عالمنا؛ فقط تبادل المصالح لا غير، فقط يوجد منهج ميكيافيلي بغيض (الغاية تبرر الوسيلة) فهل لفح هذا الطوفان وجوه أبنائنا؟!

من أين أتت لهم هذه الجفوة التي لم نعهدها عند يهود بني قريظة أو بني قينقاع ويهود خيبر!

كان الرجال في مجتمعاتنا يحكمهم شيء اسمه (المروءة والشيمة) وكان الفرد منهم إذا وقف أمام قاض، أو في شهادة فلا بد من أن يحضر معه ما يسمى (المزَّكية)، وهما رجلان يشهدان أنه لم يخرم شيئا من أمور المروءة؛ وبالتالي تُقبل شهادته أو تُؤخذ كلمته.

يقول الإمام الشافعي: نعيب زماننا والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب، ولو نطق الزمان لنا هجانا

فالبنية الاجتماعية كانت ترفض هذا المسلك، قرأينا تلك الأخلاق؛ وبالتالي فلا نلوم شبابنا وأبناءنا بقدر ما نلوم مجتمعنا، الذي يقبل بمثل هؤلاء الناس في أحيائهم وفي مناصبهم وفي وظائفهم، يتزوجون وينجبون ويتصاهرون وكأن شيئا لم يحدث! ومن هنا فقد غطى السيل على السافي وامتلأت الوديان والقيعان بالغثاء المهلك للحرث والنسل؛ لأننا سمحنا لهم بالوجود بيننا نصافحهم وكأن شيئا لم يُقترف في حق هؤلاء الآباء والأمهات.

تابعت حلقة على قناة الإخبارية هي هذا الشأن فوجدت ما تعافه النفس؛ عما ورد في تلك الحلقة. كان الرجل حينما يقيم مناسبة تجد أولاده في الصفوف الأولى يستقبلون ويرحبون ويطوفون بالضيوف طواف الحجيج. ولذلك كان الأولاد عزوة. والآن نجد ضيف القناة يعلق: فيقول الشباب لم يعد يعبأ بهذا الشأن تحضر الضيوف وتنصرف ولا تجد أحدا من الأبناء!

أين ذهبوا من جانب أبيهم وهم فخره وعزوته وأهله؟ تجده حينها في (قاعة للنت أو على مقهى)! شيء مذهل عندما نجد دار العجزة مليئة بالرجال وبالنساء! ومن يُحضرونهم هم أبناؤهم وليس أحدا غيرهم؛ فلربما زوجة الابن أو زوج البنت لم يعودا يحتملان سعال الوالد أو الوالدة ذات ليلة، فهو يقض مضجعه!

وصلني فيديو لأحد الشعراء، الحقيقة أنه هزني، لما يحمله من معان وتلويح بتفش الظاهرة فينا، فرأيت ألا أبخل عليكم ببعض أبياته وأنتم تحكمون. فيقول:

"البارحة مريت دار المسنين، وحزنت من شوف القهر والمصايب

شيبان في الستين والا في سبيعين، مرت عليهم في الحياة العجايب

قلت السموحة لكن عيالكم وين، قالت علينا لكن النسل خايب

حتى يذهب إلى قوله:

قام يتذكر يوم كانو بزارين، ياخذ لهم في كل يوم لعايب

يشيلهم من الأرض لا جاو حافيين، ويبكون لا قد هو على البيت غايب

واليوم يبكيهم وهو شايف الشين إلخ.."

ويختتم قصيدته الطويلة وكأنه في حالة رثاء دائم للمروءة والشيمة والشخصية التي نمت في مجتمعاتنا وكنا نتفرد بها حتى يقول:

"يامقصر (ن) في حقهم انت مسكين، لاتعق فيهم واطلب البر تايب

والله يارجل (ن) فيه نخوه وبه دين، إنه ما يرمي بذا الدار شايب".