كنت في مناسبة، فسألني قريبي متعجباً: لماذا أنت لست بطائفي؟ فقلت له: شكراً على حسن ظنك بي، وهذا من فضل ربي عليّ. فتعجب من جوابي قائلاً: كيف تقول هذا من فضل ربي؟! فقلت له: كل خير يصدر مني أعتبره فضلا من ربي عليّ، وكل شر يصدر مني أعتبره من نفسي والشيطان. فتعجب قريبي من جوابي هذا أيضاً وقال مندهشاً: أتعتبر الطائفية شرًا؟! وهنا انتقلت الدهشة منه لي، وسألته: إذا تعتقد بأن الطائفية ليست بشر؛ إذاً فما هو الشر؟! فقال الشر هو ألا تقف بصف طائفتك على الخير والشر. فقلت له: الشر هو عندما لا أفرق بين الخير والشر، وأقف مع طائفتي على الخير والشر.
وهذا مبدأ جاهلي نسفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً.." ومعاونته ظالماً هو بمنعه عن الظلم. ولذلك فأنا ضد الظلم الواقع على أي أحد سواء من طائفتي أو من أي طائفة أخرى. وأنا بصف المظلوم سواء كان من طائفتي أو من أي طائفة أو دين أو جنس آخر. أي أنا من طائفة الحق، إن كان للحق طائفة، وطائفي وعنصري ضد الظلم، إن كان للعنصرية والظلم طائفة، أو هكذا أحسب نفسي على طائفة الإنسان الخير كائنا من كان.
قبل أن ندخل في صلب نقاشنا أنا وقريبي، تمت دعوتنا لتناول العشاء، وتفرقنا ولم أره بعد ذلك. وكما أنني أدهشت قريبي بأنني لست بطائفي، أدهشني قريبي أكثر، بكون الطائفية أصبحت عندنا الآن ميزة تستوجب التمسك بها ومجادلة من يتخلى عنها، ومن الممكن بأن نكره ونمقت من يحاربها منا ويطالبنا بالتخلص منها. وهنا صدمت بمجتمعي: هل فعلاً أصبح يمجد الطائفية ويعدها ميزة تستوجب العض عليها بالنواجذ؟!
أي كيف انقلب - في مجتمعي - الحق باطلا والباطل حقا؟ وهل فقد مجتمعي الأخلاق والنبل والسمو الإنساني وكرم الإيثار؟ّ! ونحن في غفلة عن ذلك. سؤال حيرني كثيرا، حيث أيقنت بأننا وقعنا - أو في طريقنا للوقوع - في كارثة وجودية؛ تجعل منا مخلوقات تعيش خارج معطى دائرة القيم الإنسانية المعاصرة. وكأننا هشيم بشرية تطل على العصر من غياهب العصور الغابرة والمنقرضة. في مقالي هذا سأجاوب عن سؤال قريبي وعن سؤال غيره ممن يتعجب من كوني لست بطائفي أو بأن فلانا أو فلانة من الناس ليس بطائفي.
الإنسان - أي إنسان - هو عبارة عن مكون نفس – ثقافي، تكونه أو تشكله ست دوائر تتكامل مع بعض بطريقة تراتبية، وهي دائرته الإنسانية ودائرته الزمانية (عصره الذي يعيش فيه)، ودائرته القومية ودائرته الوطنية ودائرته الدينية وبعدها دائرته المذهبية. فأول دائرة تشكل الإنسان هي دائرته الإنسانية والتي تفرقه عن الحيوان، بما تشكله من أخلاق وقيم وتجمعه مع كل إنسان على كوكب الأرض وأهم ميزتين يتميز بهما الإنسان هما ميزة العقل وميزة حب الخير الفطرية. ثم تشكله بعد ذلك دائرته الزمانية، أي كل إنسان هو ابن عصره ويتحرك ضمن قيم ومفاهيم وأخلاق عصره، والتي كلما اقتربت وتقاطعت مع قيمه وأخلاقه الإنسانية، كسبت صفة التحضر والتقدم، وكلما ابتعدت عنها كسبت صفة التوحش والتخلف. ولهذا فلا يمكن بأن يحاكم إنسان عصر ما، حسب قيم ومفاهيم وأخلاق ومعطيات عصر آخر غير عصره ولو كان عصر أسلافه.
كما أن الدائرة القومية، تشكل الإنسان ليس فقط من ناحية أشباهه الجسدية الخارجية ولكن أيضاً تشكل ثقافته وذائقته والتي يختلف بها عن غيره الآخر، اختلاف التنوع والإثراء لا اختلاف التفاضل والإلغاء. الحضارة الإنسانية في الأول والأخير هي عطاء قوميات تكاتفت على مر العصور، برغم اختلافها، وأثرت المعطى الإنساني النهائي، "الحضارة الإنسانية". حبي لقوميتي يدفعني من مبدئي الإنساني لاحترام حب كل إنسان من غير قوميتي لقوميته. فمن خلال الحب العابر للقوميات تم صنع وتوارث الحضارات بين جميع القوميات البشرية، بلا استثناء. والقومية تتشكل من قوم واحد قد يعتنقون أكثر من دين ويتبعون أكثر من مذهب؛ ومع ذلك فالمعطى القومي الحضاري والذي يصب لصالح المعطى الحضاري الإنساني هو نتاج جهد وتعاضد كل مكونات القومية بلا استثناء؛ فالقومية هي وعاء فضاء ثقافي، لا وعاء دم ملوث أو صافٍ، كما تدعيه الحركات العنصرية المعادية للإنسانية.
داخل معظم القوميات تتكون دوائر قطرية، ترفع لواء الوطنية، والوطنية في الأول والأخير تصب في صالح القومية ولو لم تخطط لذلك. تماسك اللحمة الوطنية تعزز تماسك وعطاء اللحمة القومية والعكس صحيح. والوطنية هي من الدوائر المهمة في تشكيل إنسانية الإنسان، حيث من خلال عطائه الوطني المركز، يتحول لعطاء قومي، وعطاؤه القومي يتحول لعطاء إنساني. والقطرية تعتمد على اللحمة الوطنية والتي تبنى وتثبت على أساس العدل والمساواة بين مكونات الوطن الواحد الإثنية والدينية والمذهبية.
إذاً فالوطن هو الوعاء الذي تنصهر وتذوب فيه مكونات المجتمع، فتنتج مذاقا فريدا ومستساغا وغنيا بالمكونات النافعة. وإذا لم تنصهر أحد مكونات الوطن أو حرمت من الانصهار فيه مع باقي المكونات تنتج مذاقا شاذا، منفرا وغير مستساغ؛ كالوجبة دون ملح، أو من دون أرز يستوي ويستساغ مذاقه. إذاً فمن يسعى لتفتيت اللحمة الوطنية كمن يخرب مذاق الطبخة الوطنية والتي تصبح شاذة وغير مستساغة وفي الأخير غير صالحة للاستعمال الآدمي.
ودائرة الدين أو المعتقد الروحي، تمثل بالنسبة للإنسان المظلة الحامية للأخلاق والقيم الإنسانية السمحة والنبيلة؛ وهي التي تحمي حق الحياة والكرامة للآخر كما تفعل ذلك للذات. ودائرة الدين أو المعتقد هي عابرة للقارات والقوميات؛ ولذلك فهي وبحق غطاء كوني يحمي البعيد والقريب. وهذه الدوائر هي التي أوصى بها الخليفة الراشد والإمام الصادق علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وكرم وجهه - ولاته في الأمصار بأن يهتموا بمواطني دولته الإسلامية، حيث قال "الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق". حيث آنذاك لم تتخلق بعد لا الدائرة القومية ولا الدائرة المذهبية.
أما الدائرة المذهبية فهي الدائرة التي تحدد البعد الأدنى والمعنى الأدق للدين أو المعتقد الروحي، وهي تفسر وتفصل الدين برؤى مختلفة لا متناقضة، حسب الزمان والمكان، واختلاف الحال وتنوع الاجتهاد؛ مما يثري دائرة التراث الديني والمعتقد الروحي ككل، لا يشتتها ولا يبعثرها. الدائرة المذهبية هي في الأول والأخير ترتبط بالدائرة الدينية أو المعتقد؛ ولا ترتبط لا من بعيد أو قريب لا بالدائرة الإنسانية ولا بالدائرة القومية ولا حتى بالدائرة الوطنية. ولا يمكن بأن يقحم أحد الدائرة المذهبية في أي من الدوائر المشكلة والمدعمة للدوائر القيمية والأخلاقية للإنسان إلا ونسفها كلها عن بكرة أبيها الواحدة تلو الأخرى. وعليه فالطائفية هي أم الشرور والكبائر.
ولا يدعو للطائفية إلا سياسي فاسد أو رجل دين مفلس أو جاهل لا يفرق بين ما يضره وما ينفعه. وأنا لست بسياسي ولا رجل دين، وأفهم ما ينفعني وما يضرني؛ ولهذا فأنا لست بطائفي.