يحكي أحد كبار السن فيقول: قديما لم نكن نناقش وندقق في التفاصيل، كنا نأخذ الأمور على ظاهرها، وكان هناك اثنان لا نسألهما عما فعلا أبدا، الطبيب والقاضي، كان الطبيب يقول: لا بد أن نشق البطن ونعمل العملية، فنقول له: أنت الطبيب وأنت أعرف، ونعطيه أجسادنا ليفعل بها ما يراه مناسبا، وكنا نذهب للقاضي فيقول لأحدنا: سنجلدك ونسجنك تعزيرا فهل تعترض، فلا يسعه إلا السمع والطاعة لقول القاضي، فما سر التغير في هذا الزمن، لم يعد أحد يعجبه الطبيب ولا القاضي؟!

نسي هذا الكهل أنه بنفسه كان يخضع قبل الطبيب لمعالج القرية، فيكويه بالنار على رأسه وجنبه على سبيل العلاج فلا يعترض، نسي أنه كان يستسلم لحكم شيخ القبيلة؛ كي لا يخسر قبيلته، وعندما تعامل مع الدولة الحديثة بقي على نفس قياساته القديمة، بينما أبناؤه أتقنوا أدوات الدولة الحديثة، فأصبحوا يستقبلون خبر العملية الجراحية بما تقتضيه ضرورة التجربة من سؤال استشاري آخر، والتأكد من ضرورة إجراء العملية قبل الاستسلام لمشرط الجراح، وأصبح حكم القاضي كما تقتضي الدولة الحديثة محلا لاعتراض المحكوم عليه خلال فترة كفلها النظام مع حق الاستئناف لمحكمة أعلى، قبل الخضوع لاجتهاد القاضي في حكمه القابل للنقض إن توفرت أسباب ذلك.

بقي بالمقابل شيء آخر يعانيه هذا الجيل، ويعدّ حالة عكسية لمعاناة الجيل القديم، فالحكومة في الزمن الماضي كانت بيروقراطية ناشئة وشابة، تستطيع أن تسبق طموحات عموم المواطنين، فكنا نسمع بالمعترضين على فتح الطرق بين أراضيهم مفضلين استخدام دوابهم على استخدام السيارة التي تشق الطرق بين مزارعهم!!! وغيرها من أمثله كثيرة، كامتناعهم عن إلحاق أبنائهم بالمدارس التي تمنعهم من العناية بغنمهم، وهكذا، مع استثناءات تقدمية بسيطة كانت سابقة لزمنها كمطالب عمال أرامكو إبان نشأتها، مما كانت تتلكأ فيه الشركة قبل تأميمها، مما لا يستطيع استيعابه المواطن العادي، لنسمع عن تلك العجوز التي تحكي عن تجمع ابنها مع أناس هناك في أرامكو .

كل ذلك كان في الزمن الماضي، فماذا عن الزمن الحالي؟ الزمن الحالي وقد أصبحت البيروقراطية في كامل عزها، بدأ العالم من حولنا يتجه لمفاهيم الحكومة الإلكترونية، ومما أثار استغرابي أني شاهدت قبل سنوات جوازات السفر لبعض اليمنيين بالنظام الجديد للجواز الممغنط مع قل الإمكانات عندهم، قبل أن نعرف نحن هذا النوع من الجوازات، فهل نحن نعاني من ترهل البيروقراطية؟ لا يوجد في السعودية ترهل للبيروقراطية بالمعنى الصرف للكلمة، فقد شاهدنا حالات استثنائية لقيادات استطاعت تجاوز العيوب البيروقراطية للمؤسسات الحكومية التي يتسنمون قيادتها، وكان النموذج الكاسر للبيروقراطية هما خالد الفيصل كأمير، والمرحوم غازي القصيبي كوزير.

إن ما نعانيه ويظهر على شكل ترهل بيروقراطي، ليس إلا مظهرا من مظاهر إعادة تدوير المترهلين في الجهاز الحكومي، فالجهاز الحكومي الحالي يعيش صراع أجيال مع مواطنين أغلبيتهم دون سن الأربعين، لنواجه الحقيقة المقلوبة عما عاناه الجيل القديم من أهلنا، فالمواطن حاليا سابق في طموحاته ومطالبه لكثير مما تطرحه بعض الجهات الحكومية، بل إن مفهومه لحقوقه كمواطن تجاوز مفهوم آبائه الذين يسمون أوراقهم الثبوتية "التابعية"، وما زالت بعض الجهات الحكومية تتعاطى مع المواطن وفق مفاهيم تتناسب ومعطيات قديمة تجاوزها الزمن، ولم يبق ما تراهن عليه سوى وقفة الممانعين الذين يعملون كحجة يتكئ عليها من لا يستطيع الإسراع بالإنجاز والتطوير على مستوى الإنسان والمكان، ليصبح هؤلاء القلة من الممانعين هم كل الوطن وكل الشعب، فالممانعة حجة يستتر بها كثير من قادة الترهل في المؤسسات الحكومية.

بقي سؤال الممانعة هل هو سؤال حقيقي؟ نعم هو سؤال حقيقي وأسبابه موجودة في كل بلاد الدنيا بأوجه مختلفة بحجة الحفاظ على الهوية القومية، أو الدينية، وغيرها، ولكن ما هي الممانعة المعتبرة، وهل كل ممانعة ممقوتة؟ هناك مثلا ممانعة لقرارات حكومية تؤثر بشكل مباشر على بعض رجال الأعمال، فالعمالة الوطنية تحتاج رواتب أعلى، وتنظيمات أكثر صرامة من حيث الإجازات وخارج الدوام، بخلاف العمالة الأجنبية التي يمكن تجاهل كثير من حقوقها، عندها تظهر الممانعة ليس من قبل هؤلاء التجار، الذين لا يقعون في مواجهة مع المجتمع، والتاجر يراعي زبائنه في الظاهر فقط، لكنه بقدرة قادر يدفع بفئات اجتماعية لتقوم بدور الممانعة تحت مبررات دينية حينا، وأحيانا أخرى تحت مبرر العادات والتقاليد، فكيف يعمل الشاب في هذه الأعمال المهينة للكرامة مما هو موجود في سوق العمل الأهلي، رغم أن هذا الممانع لا يمانع من استلام مكافأة "خادم مسجد" لسنوات طويلة، وليته يخلص فيها إذ يترك مهمة نظافة المسجد لأحد العمال الأجانب مقابل 100 ريال بالشهر ويأخذ باقي المكافأة؟!!

يرفض كثير من الممانعين عمل المرأة بحجة دينية يطرب لها بعض رجال الأعمال؛ ليتأخروا في السعودة، رغم أن الممانع يرى بأم عينه النساء يستجدون عند بعض الإشارات لقمة العيش في رابعة النهار، والحرة منهن تبيع الخبز الشعبي على الرصيف تنتظر الزبائن.

إذاً الممانعة في هذا الوطن أصبحت صنعة رائجة لأصحاب مصالح خفية وصراعات أشد خفاء، فبعض قياديي الإدارات الحكومية الذين يعجزون عن مسايرة طموح المواطن، يسعدهم ويطربهم هؤلاء الممانعين، من باب "لم آمر بها ولم تسؤني"، والغريب أن الممانعين ليسوا مشغولين بقضايا الفساد المالي وبراءة الذمة التي تنتظر هيئة النزاهة الإبلاغ عنها، بقدر انشغالهم بقضايا دينية تعني الفرد فيما بينه وبين الله ولا تعني أحدا سواه، قضايا لا تتجاوز انشغالهم القديم في بداية نشوء الدولة بمن يطيل ثوبه ويأخذ من لحيته.

الممانعة المؤذية يرتكبها بريء جاهل، ودواؤه العلم، ويرتكبها ذكي لئيم، يتعلل بالعادات والتقاليد حينا لشحن عاطفة العروبة، وبالشريعة حينا آخر لشحن عاطفة الدين، وكل ذلك لأوهام نفسه في التمكين وبسط اليد، وبين هذين يبقى ممانع واحد صادق قلق على أهله ووطنه، لا يعمل عمل القتاتين ضد مخالفيه، ولا يمالئ فريقا ضد آخر، بل يطرح وجهة نظره للنقاش في الإعلام والصحافة، ويقبل الأخذ والرد، ويسمع، فيتعلم ويعلم، يستفيد ويفيد، يتطور ويطور، أمثال هذا الشخص هم العصف الذهني الراقي لمجتمعنا، فكثر الله من أمثاله، وكفى الله وطننا شر الناطقين بما يشبه الحق ليريدوا به باطلا يعتقدوه حقا ويصروا علينا بذلك، والفيصل بيننا وبينهم أن الأمة في هذا الكيان ـ المملكة العربية السعودية ـ اجتمعت بالبيعة للمؤسس وأبنائه، وليس بالبيعة لهم، فمتى يفيق هؤلاء الأقزام.