(كنت أتمنى لو كنت معي بواكير ظلام ما قبل البارحة، قريبا من مسقط رؤوسنا كشقيقين، لتكتب بالإحساس الإنساني قصة هذه الأم المثخنة بجراح تسعين "حولا" من الشقاء والمعاناة والحاجة وتحالف كل الظروف. كنت أتمنى لو كنت معي، أبا مازن، كي تملأ عينيك برؤيتها واقفة على باب الطين في أقصى القرية المهجورة كتمثال من "نصف قوس" وقد "احدودب" ظهرها وكأن كل عام من زمنها الظامئ يغتال فقرة من عظامها المتخشبة. كنت يا شقيق الحياة، وأغلاها، أتمنى لو كنت معي كي تشاهد ذلك المزج اللوني والشكلي بين تجاعيد وجه هذه الأم وبين المداميك الطينية المهترئة من حولها كي تؤمن أن الحياة برمتها لا تساوي لحظة فرح أو حزن ولا تستحق إلا ما تستحقه هذه التجاعيد على الوجه والمداميك على الجدار.
كنت أتمنى، أبا مازن، لو كنت معي كي تدرك بعض حقائق هذه الحياة حين لا يكون فيها أي فرق بين خشونة يديها وبين جفاف "المدماك" الذي اتكأت عليه وهي تحمل عذاب تسعين عاما من الزمن الجاف المظلم القاسي: وبكل الاختصار، شقيقي الأغلى: كنت أتمنى لو كنت معي في الظلام والبرد والمساء الكئيب كي تزداد صلابة أمام ظروف الحياة وكي تستمد مزيدا من الحرمان والبؤس من وجه أم استطاعت مقاومة كل أيام تسعين سنة كي لا تموت قبل موت ابنتها الوحيدة.
كنت أتمنى لو كنت معي كي تشاهد البكاء الذي افتقد للدموع، لأن جسد "الأم" بات جافا ولم يعد يسمح لها بدمعة، وكنت أتمنى لو كنت معي كي تسمع منها جمل الخوف وكلمات المصير المجهول: حين تكون أغلى أمنيات الفقير المحروم من الأنثى أن تنهي الحياة في دار رعاية اجتماعية لولا خوفها من المجهول على ابنتها "الستينية" الوحيدة. ولأنني، يا شقيقي أعرف عنك مما "خفي" هواية الدموع والبكاء على هذه القصص، فكنت أتمنى لو كنت معي لتمارس هواياتك كما لم تمارسها أبدا أبدا أبدا من قبل مع أم ولدت في العصر الحجري وستموت فيه: مع أول حالة على وجه الأرض لأم تتمنى موت ابنتها قبلها كي تطمئن عليها قبل أن ترحل. هم يا شقيقي على هذه الدنيا، ولكنهم من أهل الآخرة).
أخوك: صالح بن سعد الموسى "أبو غالب" من شرق سراة عبيدة