كان أداء "ماجدة" الممثلة المصرية المخضرمة وهي تؤدي دور المناضلة الجزائرية "جميلة بوحيرد" في إحدى روائع المخرج المصري الراحل يوسف شاهين جدير بأن يحفر في الذاكرة صورتها، عرفتُها أول مرة ليس من كتاب أقرؤه أو صحافة تكتب عنها، بل منذ شاهدتُ ذلك الفيلم عبر الفضائية المصرية حين كنت طفلة أكتشف عوالم حياة لأراها حولي عبر تلك الشاشة المشوشة التي تأتينا من "أريل هزيل" فوق سطوح بيتنا بجدة، لكن أداء ماجدة جعلني أعجب بها كثيرا.
كانت مراهقة عنيدة حين أخذت تردد "الجزائر أمنا"، فيما يردد زملاؤها في الطابور المدرسي "فرنسا أمنا" فتُغضب مدير المدرسة الفرنسي ويلجأ إلى طردها.. هذه المرأة حين كانت عشرينية أخذت تناضل ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وكانت من أوائل الفدائيين، وحين قبضوا عليها وعمرها 22 سنة لقيت منهم أصنافا من التعذيب الكهربائي والامتهان الجسدي حتى حين يُغمى عليها وتستفيق لا يجدون على لسانها ما يرغبون من أسرار واعترافات تكشف عن زملائها في المقاومة، بل" الجزائر أمنّا" حتى نفد صبر الفرنسيين منها، وفي محاكمة صورية عام 1957 حكموا عليها بالإعدام وتحدد يوم 7 مارس 1958 موعدا لتنفيذه، لكن فوجئ الفرنسيون بمعارضة حادة من العالم ضد الحكم، مما اضطرهم لتخفيفه للسجن مدى الحياة، وهناك من لا يصدق أن أحد أهم الذين دافعوا عنها وجيَّش الرأي العام ضد فرنسا لإيقاف حكم الإعدام هو محاميها الفرنسي "جاك فيرجيس" الذي لم يتنازل عنها حتى نالت حريتها في 1962، وقال مرة: "لو أعدمت جميلة كنتُ سأقتحم مكتب الجنرال "ماسو" أو "بيجار" وأقتلهما، لم أكن أتصور موتها، فحياتها هي التي جعلتني اليوم متصالحا مع نفسي".
هذه المناضلة التي تعيش اليوم على عتبات الثمانين من عمرها حين نالت حريتها ونالت مع نضالها الجزائر الاستقلال من الاحتلال الفرنسي، كان الأمر غير المتوقع أن تتزوج فرنسيا هو محاميها "جاك" الذي أشهر إسلامه ليتزوجها، وتترك معه الجزائر لتعيش في باريس وتنجب أبناء فرنسيين من زوجها الذي كان من أشهر المحامين في العالم، وحين تم تكريمها مؤخرا من قبل إحدى الفضائيات اللبنانية، كونها رمزا للنضال العربي فاجأت الحضور بأنها متزوجة من فرنسي، وأنها لا تتقن العربية بل الفرنسية لغة الاستعمار الذي قاومته بالعربية الجزائرية.
ما أود قوله هنا هو هذا الفرق الكبير بين نضال "جميلة بوحيرد" لتحرير الجزائر، وبين نضال كثيرين ممن أفرزتهم ثورة الشارع العربي في ثورات "الخديج العربي" المزكوم ونراهم ونسمع لهم. هي ناضلت ضد آخر مختلف عنها لغة ودينا ووطنا، أما ثوار العرب اليوم فيناضلون ضد عرب مثلهم، ويفجرون في الخصومة ضد من يشتركون معهم في الوطن والدين والمذهب أيضا!! جميلة ناضلت لتحرير الجزائر من الفرنسيين، ليس لأنها تكره الفرنسيين، بل لأنها تريد الحرية لوطنها، وحين فعلت لم يكن هناك من داع لأن تفجر في خصومتها وتتحول لحالة انتقامية، بل تسامحت مع ما فعلوه معها رغم التعذيب وحكم الإعدام، وتزوجت منهم وعاشت بينهم، فهل يفهم الشارع العربي هذا النوع من النضال اليوم الذي تحول مع الأسف في "الخديج العربي" إلى نضال مسموم يقتل الأبرياء؟