أما وقد هدأت رياح غضب وزارة الصحة بعد إجماع عدد من أعضاء مجلس الشورى على تدني مستوى الخدمات الصحية المقدمة من الوزارة، فقد حان الوقت لتحليل الأسباب الحقيقية وراء هذا الغضب.
حاول الدكتور سعيد السريحي إعادة وزارة الصحة إلى رشدها في مقاله "حين تغضب وزارة الصحة من الحقيقة" المنشور بجريدة عكاظ بتاريخ 25 ديسمبر 2013. حاول الدكتور بحكمته إزالة الغشاوة عن أعين وزارة الصحة لعلها ترى الحقيقة، فما أسوأ من عمى البصر إلا عمى البصيرة. وفي مقاله أيضا، عتب الدكتور على مجلس الشورى لتطييبه خواطر وزارة الصحة، وهو ما اختلف فيه مع الدكتور، فغضب الابن الأرعن لا بد من احتوائه، خاصة إذا ما كان مسؤولا عن صحة المواطنين وميزانية مليارية.
الغضب هو إحساس إنساني غالبا ما ينتج عن إحباط أو الشعور بالتهديد، ولذلك فقيمته الوظيفية هي محاولة البقاء على قيد الحياة. وعليه فإننا سنحاول إجابة السؤال: لماذا غضبت وزارة الصحة من إجماع الأعضاء على تدني مستوى خدماتها خلال مناقشة تقريرها السنوي تحت قبة المجلس الشوري؟
لا يمكن أن يكون الإحباط من عجز وزارة الصحة عن أداء مهامها هو المسبب لنوبة غضبها العارمة، بدليل أنها عللت غضبها بعدم امتداح أعضاء المجلس لإنجازاتها ومشاريعها الخرسانية المتعثرة، وبالتالي فالوزارة مقتنعة وهما بجودة أدائها بالرغم من عجزها المتكرر عن تقديم أي أدلة على رضا المواطنين عن خدماتها.
إذا فهل كان الغضب ناتجا عن شعور بالتهديد عما يمكن أن يشكله هذا الإجماع لوجودها بشكله الحالي، مما اضطرها لاستخدام استراتيجية: "قابل الصياح بصياح تسلم"؟ أو هل كان وراءه أسباب حقيقية تشفع لنوبة غضبها المخجلة التي تصدرت صفحات الجرائد؟
لدى وزارة الصحة كامل الحق في أن ترعد وتزبد غضبا، فها هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير أتت من مجلس الشورى، والتي اعتقدت الوزارة أن بإمكانها سحر أعين أعضاء المجلس بسعي ظهورها الإعلامي الدائم المتحرك، ونست أن عصا واقع الخدمات الصحية في المملكة قادرة على ابتلاع ما يأفكون.
لوزارة الصحة كامل الحق في أن تغضب، فهي قد ملت من مناشدات المواطنين للعلاج والأسرة، وملت من التحقيقات الصحفية عن الأخطاء الطبية، وملت من محاولة التبرير لمشاريعها المتعثرة، وملت من الاستشارات المجانية المقدمة لها من زملاء المهنة والمختصين سرا وعلانية، وملت من وصولها للعالمية بضعف مجابهتها لـ"كورونا" و"الضنك" إلى ذكر سوء أدائها في مقال الكاتب توماس فريدمان في النيويورك تايمز العريقة.
لوزارة الصحة كامل الحق في أن تغضب، فهي لا تملك الإجابة عن أسئلة غريبة عن معدلات الوفيات والأمراض ومسبباتها لكل منطقة، ورضا مواطني المناطق عن خدماتها الوقائية والعلاجية والتأهيلية إن وجدت، وأسباب تأخر المواعيد بالأشهر والسنين، ومدى تناسب مرحلة الخدمة الصحية المقدمة للمرضى مع حالاتهم، وقدرة خدماتها الحالية على حماية المواطنين من العوز الناتج عن دفعهم من جيوبهم الخاصة على الخدمات الصحية المقدمة من القطاع الخاص ومراكز الأعمال، وإثبات تقديمها للخدمات بأعلى كفاءة ممكنة، ومدى فاعلية إنفاق الوزارة لمخصصاتها المالية في تحسين صحة المواطنين.
غضب وزارة الصحة مخيف بل مرعب؛ لأنه يحتم مراجعة عاجلة لتعاملها مع المواطنين من المرضى وأهاليهم الذين اضطرتهم الحاجة الصحية لمناشدة علاج أو سرير عبر وسائل الإعلام، ولنا في ماجد الدوسري ـ يرحمه الله ـ وتعامل وزارة الصحة مع حالته عبرة.
غضب وزارة الصحة مؤرق؛ لأنه أعاد تسليط الضوء على بعض تظلمات المواطنين من موظفي الصحة، وأعاد فتح ملف توظيف خريجي الدبلومات الصحية وتأخر تفعيل نظام السماح للأطباء السعوديين بالعمل في القطاع الخاص، إضافة للكادر الصحي الذي أسهم في تسرب استثمارات المملكة التعليمية الصحية المحلية والخارجية.
غضب وزارة الصحة مرعب، لأنه يطرح أسئلة متعددة عن أداء الهيئات الصحية الشرعية، ولجان المخالفات الصحية المختصة، ومدى تأثير هذا الغضب على تحقيقاتها وقراراتها إذا ما انكشفت قضايا الأخطاء الطبية للإعلام.
هذا الغضب يدفعنا للسؤال عن مدى ارتباطه بتعثر المشاريع الصحية، ومدى تأثيره على تخبط أداء الوزارة الإداري وقراراتها الاستراتيجية كالاستثمار في صناعة الأدوية خارجيا بدول أفريقية، كما ذكر وفد الوزارة في منتدى فرص الأعمال السعودي الأميركي الأخير.
لم تدرك وزارة الصحة أن نوبة غضبها أزاحت الستار عن شرخ عميق في ثقة الوزارة بأدائها، والدليل أن ملاحظات بسيطة جوهرية من أعضاء مجلس الشورى هزت أركانها، وتسببت في إدانة نفسها وجعلتها عرضة للاستدعاء والمساءلة، فكل هذا الغضب بحاجة لتفسير.