سؤال الهوية الشخصية هو أحد أهم أسئلة الفلسفة على مدار قرون طويلة. هذا السؤال أصبح أكثر إثارة وحيوية مع التقدم العلمي الحديث الذي جعل من قدرة الإنسان على التعرف على خصائص الأشياء أكثر دقة ووضوحا. سؤال الهوية الشخصية يعني التساؤل حول ما الذي يجعل الشيء نفسه رغم حالات التغيّر التي تمرّ به؟ إحدى صياغات هذه المشكلة يمكن عرضها كالتالي: الأشياء تحمل أحيانا صفات متناقضة ونحن نعلم أن المتناقضات لا تجتمع في ذات الوقت. مثلا نعلم أن الإنسان يكون أحيانا واقفا وأحيانا جالسا، وفي ذات الوقت نعلم أن الوقوف والجلوس متناقضان، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون الشيء واقفا وجالسا في ذات الوقت. ما الذي يجعل الشيء يظهر في مظهرين متناقضين ونطلق عليه في ذات الوقت أنه ذات الشيء؟ الجواب الأقرب للحس المباشر والذي يمكن أن يحل هذه المشكلة هو جواب الزمن. بمعنى أن الشيء يظهر في حالات متناقضة في فترات مختلفة، بمعنى أنّه يتغيّر مع الوقت.
هذه الإجابة تحلّ إشكالا مؤقتا، ولكنها تعيدنا إلى ذات المشكلة، مشكلة الهوية، وهي أنه ما الذي يجعل الشيء يبقى نفسه رغم ظهوره في حالات مختلفة وأحيانا متناقضة؟ ما الذي يمسك بهذا الشيء ويجعلنا نطلق عليه ذات الشيء رغم تحولاته وتغيّراته؟ إذا خصّصنا السؤال على الإنسان فإن السؤال هو: ما الذي يجعل فلانة من الناس هي هي على مدار سنين طويلة من العمر رغم التغيّرات الهائلة التي تمرّ بها؟ هذا السؤال ربما يبدو غير ملحّ في سياقات كثيرة، ولكنه ملحّ كثيرا، خصوصا اليوم، مع تقدم التقنية العلاجية وإمكان نقل الأعضاء بين البشر. اليوم يمكن نقل قلب إنسان لإنسان آخر، وربما قريبا يتم نقل مخّ إنسان لإنسان آخر، وذات الكلام ينطبق على باقي الأعضاء. هل نقل الأعضاء يعطينا شخصا جديدا أم أن الشخص القديم يمكن أن يبقى هو هو رغم تغيّر أعضائه الجوهرية كالمخّ مثلا؟ هذا السؤال حيوي جدا من وجهة نظر قانونية أيضا، لأن محاسبة الناس على جرائم ارتكبوها في الماضي تنطلق من مفهوم محدد للهوية الشخصية يعطينا المبرر للقول إن هذا الإنسان الذي ارتكب الجريمة في الماضي هو ذاته الإنسان الماثل أمام المحكمة.
الإجابات على سؤال الهوية الشخصية للإنسان متعددة ومختلفة، منها ما يقول بأن الروح الشخصية لكل فرد هي من يحفظ هويته على مرور الزمن، لأن هذه الروح مفارقة للمادة ومتعالية على التغيّر. هناك من يقول إن سيكولوجيا الإنسان -أي مجموعة أفكاره وذكرياته ومشاعره النفسية- هي التي تحدد هويّة الفرد. هناك أيضا من يقول إن الجسد هو من يحفظ الهوية الشخصية، تتغير أفكار الإنسان ومشاعره ولكنه يبقى هو هو، لأن جسده أو تركيبته البيولوجية هي الثابت. كل محاولة من هذه المحاولات تواجه صعوبات حقيقية في الإجابة على سؤال الهوية. الجواب الأول يحيل إلى معنى أو صفة لا يمكن التحقق منها أو التأكد من وجودها، وبالتالي هو لا يقدم حلا علميا أو فلسفيا للمشكلة. الجواب السيكولوجي يواجه مشكلة التغيير الحاد في الأفكار والمشاعر عند الأفراد والذي لا يترتب عليه، بالمعنى الدقيق للكلمة، انتقالهم من هوية لهوية أخرى. الجواب البيولوجي يواجه مشكلة نقل الأعضاء ومشكلة انتقال جزء من الهوية مع كل عضو. لكي أجعل الإشكالية أكثر وضوحا سأضرب مثالا يجعلنا أمام أسئلة حقيقية.
لنفترض أن لدينا شخصين، لنقل (أ) و(ب)، أجريت لهما عملية نقل دماغ. بمعنى أن دماغ (أ) سينتقل لـ(ب) ودماغ (ب) سينتقل لـ(أ). لنفترض أيضا أن الدماغ هنا يحتوي الأفكار والمشاعر والذكريات. هذا يعني أن الأفكار والمشاعر والذكريات الموجودة في دماغ (أ) ستنقل إلى جسد (ب) والعكس صحيح. السؤال هنا حول هوية الشخصين الاثنين بعد عملية النقل هذه. من هما؟ دعونا أولا نسأل من منظور الأشخاص أنفسهم. بمعنى دعونا نتساءل عن الشخص (جسد أ ودماغ ب) حين يستيقظ من العملية ماذا سيقول أو كيف سيعرّف نفسه. هل سيقول ما هذا الجسد الغريب؟ بمعنى أنه سيفكر كـ(ب) في جسد (أ) أي أن هويته انتقلت تبعا للدماغ؟ أم أنه سيقول تبدو أفكاري غريبة جدا بمعنى أنه لا يزال ينطلق من ثبات الجسد وسيلاحظ تغييرا في الأفكار والمشاعر؟ في المقابل يمكن أن ننظر للمشهد من الخارج، بمعنى من منظور أهل (أ) وأهل (ب) حين يزورونهم في المستشفى. هل سيلتزمون بالسحنة الجسدية على أساس أنها هي الثابت أو أن حديث هذين الشخصين بعد العملية وتغيّر أفكارهما سيقنع الأهل بأن تغييرا في الهوية قد حدث؟
المشهد السابق يجعلنا أمام خيارات كثيرة تبدو كلها مثيرة للتساؤل. من هذه الخيارات أن (أ) سيبقى هو (أ) حتى بعد نقل ذكريات وأفكار ومشاعر ب له. هذه الإجابة مشكلة لأنها ستجعل من (أ) عاجزا عن إدراك نفسه السابقة وهو لا يمتلك معلومات عنها. الخيار الثاني أن (أ) سيصبح (ب) ومشكلة هذا الخيار أنه يترتب عليه أن الفرد يتحول إلى شخص آخر مع تغيير أفكاره ومشاعره. هذا يخالف الحس المباشر وتجارب الناس التي تشير إلى بقاء هوياتهم الأساسية رغم تغيّر أفكارهم. الخيار الثالث أننا أمام أشخاص جدد وهذا يجعلنا أمام مشكلة موت (أ) و(ب) أو اختفائهما رغم أننا لا نزال نملك كل ما كان يكوّنهما.
كل هذه أسئلة، وإن كانت مبنية على تجربة ذهنية إلا أنها لم تعد بعيدة عن التجربة الواقعية الإنسانية مع تقدّم تقنية نقل الأعضاء. هل الإشكالية تعود لتذكّرنا بإشكال سؤال الهوية حتى على مستواه الفردي مما يجعلنا نفكّر كثيرا في افتراض معان ثابتة لهويات معّينة يراد تشغيلها لأغراض قد لا تبدو واضحة من الوهلة الأولى؟ =