أكدت الباحثة بشؤون الحرمين عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة آمال عبدالحميد صديق، أن المدينة المنورة أقدم سوق تجاري حرة شملت أقدم المهن التجارية في تداول الأموال النقدية وتجارة الصيرفة في العالم.

وقالت في دراسة لها نشرها مركز بحوث ودراسات المدينة بعنوان "الحج وأثرة على مجتمع المدينة من خلال كتب الرحالة إبان الحكم العثماني للحجاز" إنه لم يقتصر سوق المدينة على المعروضات من السوق المحلي بل كانت السلع تعرض من كل أنحاء العالم وكانت المدينة بمثابة معرض دولي مفتوح يباع فيها المعروضات من الدول طوال العام والتي تجلب لها بقوافل الحجيج من شتى بقاع العالم، كما تشكل أكبر ملتقى لاجتماع المهن العالمية.

وبينت صديق أن كتب الرحالة أثبتت أن من الآثار الملموسة أن الزائر للمدينة لا يجد فقط المنتجات التجارية المحلية بل يجد البضائع من كل بقاع المعمورة، وذلك لأن معظم الحجيج كانوا يعتمدون في نفقات فريضة الحج على التبادل التجاري الذي يقام كل موسم في المدينة ويحرصون على إحضار البضاعة التي لا يوجد لها مثيل في الحجاز وأن التجار في المدينة يعتمدون على ما يصلهم عبر قوافل الحجيج.

وقالت إن العصر العثماني هو الامتداد التاريخي الطبيعي للعصر الحديث ولذا فكثير من العادات الآن هي امتداد لعادات ذلك العهد، الذي شهدت فيه المدينة تحولات كثيرة وتطورات نتيجة رحلات الحج والزيارة، مضيفة أن دخول السكة الحديد للمدينة والحرب العالمية الأولى من أبرز المؤثرات على المجتمع في المدينة المنورة.

وانتقلت الباحثة لوصف المجتمع المديني بقولها إنه خليط من سائر الأمم الإسلامية، فبالإضافة إلى سكانه الأصليين من الأنصار والقبائل العربية وجد عدد كبير من الشاميين والمصريين والعراقيين والترك والجاوة والجراكسة والأكراد والأفغان وعدد من القادمين من الجمهوريات الإسلامية في روسيا.

وأضافت: جذبت قداسة المدينة الغرباء الذين كانوا في البداية يدفعهم الشوق لزيارة المسجد النبوي، لكن سرعان ما يطيب لهم البقاء والمجاورة فيستقرون بالمدينة وينخرطون في امتهان الحرف المختلفة مؤثرين ومتأثرين في المجتمع المدني ومنهم من يمارس مهنه التي كان عليها قبل قدومه للمدينة، مما جعل المدينة أكبر ملتقى مهني في العالم.

وتحدثت الباحثة عن أثر الحج على التعداد السكاني للمدينة في العهد العثماني، حيث نقلت عن الرحالة "أوليا جلبي" الذي زار المدينة عام (1081) أن المدينة تتحول إلى بحر من البشر عندما يفد إليها الحجيج وأن تعداد سكانها خارج أيام الحج حوالى 14 ألف نسمة. ويذكر "بوركهارت" أن عدد سكان المدينة حين زارها عام 1231 بلغ 16 ألفا، بينما قدر الرحالة جون كين عام 1296 أن المدينة فيها حوالى 20 ألفا، وزاد العدد عام 1325 حوالى 40 ألف نسمة، وفي عام 1352 بـ56 ألفا، مما يشير إلى قوة تأثير الحج على المجتمع المديني في عدد سكانه.

وأضافت : حدد إبراهيم رفعت في رحلته الحجازية المسماة "مرآة الحرمين"، عدد سكان المدينة في عام 1325 بـ56 ألف نسمة، ثم وصل العدد بعد افتتاح السكة الحديد لـ80 ألف نسمة، وأسهمت سكة حديد الحجاز في إنعاش الحياة الاقتصادية بالمدينة وتقريب المسافات مع أقطار الدول العربية وتناقص العدد مع نشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1333.

ويشير "أوليا جلبي" إلى أن "عيد" أهل المدينة هو موسم الحج وأن المدينة حينذاك لا تنام. ويقول: "والأهالي يعملون بالتجارية والصيرفة وأبواب المدينة ومحلاتها مفتحوة ليلا ونهارا طوال أشهر الحج (رجب شعبان، رمضان) ويضيئون المدينة ليلاً بمئات الألوف من القناديل والعيد الحقيقي لأهالي المدينة هو مجيء الحجاج.