قبل عشرات السنين كنا نسمي وزارة التربية والتعليم بـ(وزارة المعارف)، ثم اكتشفنا في يوم أن القضية ليست قضية "معارف" تحقن في الطالب وإنما هي "تربية" و"تعليم"، وكان السجال بالنظر إلى وضع التعليم ومخرجاته محتدماً في البحث عن سبب التعثر أو عدم الرضا عن العملية التعليمية برمتها في المملكة.. هذا الجدل الممتد إلى هذه اللحظة التي نعيشها.
الحديث عن التعليم في المملكة لا يحتاج إلى "متخصص" في التربية والتعليم والمناهج، فالمتحدث إما أن يكون معلما يرى عن قرب الخلل فيه، أو طالبا يرى انعكاس العملية التعليمية عليه، أو أبا أوأما، يرون أثر هذه العملية التعليمية على أبنائهم، أو تاجرا أو رئيس دائرة يقيس المخرجات للتعليم بناء على ما يراه من الموظف الجديد، وغير ذلك، فالعملية كلها مرتبطة ومرصودة من كل فئات المجتمع.
ومن خلال الملاحظة والرصد البسيط، وما يجري من نقاشات حادة حول وضع التعليم في المنتديات والمجالس وغيرها يتمحور حديث الناس عن ثلاثة أركان مهمة في العملية التعليمية (المباني والتجهيزات –المعلم– المناهج التعليمية)، وتتنوع وجهات نظر في تحميل تدني مستوى التعليم إلى أحد هذه الأركان. والحقيقة أن هذه الأركان كلها في علاقة جدلية لا تنفك، وصلاح أحدها لا يغني عن صلاح الآخر، فمهما كانت التجهيزات راقية دون أن يكون المعلم الصالح يسير في جنباتها فالعملية لن تؤتي أكلها المطلوب. ومهما يكن المعلم على مستوى راق من الوعي والفهم دون أن تكون ثمة مناهج محكمة وعملية فلن يؤتي التعليم أكله. ومهما تكن المناهج جيدة مع فقد البيئة الحاضنة والمعلم الجيد فلن تؤتي العملية التعليمية أكلها. ومن صور هذه العلاقة الجدلية بين التعليم والمعلم أن المعلم يتخرج منه ثم يدرس فيه، فيكون المعلم مرتبطا بمستوى التعليم، وهذا بلا شك ينعكس على الأجيال التي هي الانعكاس الحقيقي لمستوى هذا التعليم. وهذا يدفعنا إلى إعادة النظر في شرط "السعودة" في التعليم، فكل شيء يمكن أن نتشدد في توطينه إلا العلم الذي لا يعرف حدوداً ولا سدوداً، فهو عولمي بطبيعته، ولا ينبغي الوقوف أمام الطبيعة.
والحق أن العلاقة بين هذه الأركان جدلية بلا شك، ولكن مع ذلك ليست على مستوى واحد من الأهمية. وعندي أن "المناهج" تأتي بالرتبة الأولى من الأهمية، ذلك لأنها هي التي سوف تتسلل إلى عقل الطالب وتصنع منه الإنسان والمفكر والعالم، وبمستوى الخلل في صياغتها ودورها وهدفها سيؤثر ذلك على الطالب ومخرجات التعليم. وتعليمنا بكل أسف يعاني من الحشو وصب المعارف في العقول والتركيز على الجزئيات وإهمال الكليات، وهو يعاني كذلك من غياب زراعة "المنهجية العلمية والعقلية" التي تبني شخصية الطالب، فالطالب ليس بحاجة إلى علوم ومعارف متناثرة في تخصصات كثيرة ينساها بمجرد مغادرته لقاعة الامتحان، كما رأينا ورأى كثير ممن يتذكر المناهج التي درسها، ولكنه بحاجة إلى أن يعطى مفاتيح التفكير وآلية الفهم والعقل الناقد البصير، وأن نسير في تعليمنا على المثل القائل:"لا تمنحني سمكة، ولكن علمني كيف أصيدها"، ونحن بحاجة إلى أن نعطي الطالب "مفاتيح" العلوم ومنهجياته وطرائق التفكير، ثم هو يستطيع من خلال ذاته أن يتحصل على المعارف والعلوم، وللأسف يتخرج الطالب عندنا وهو لا يملك الحد الأدنى من ذلك – إلا النادر- ومن يتميز فإنما لصفات يحملها خاصة، يستطيع من خلال جهوده أن يستثمرها في النبوغ والتفوق.
ومما يتعلق بالمناهج - والحديث فيها يطول- موافقتها لمتطلبات المجتمع وسوق العمل.. هذا يعني الارتباط الوثيق في صياغتها مع كل القطاعات التنموية في البلد، والتي لا بد أن تسهم في توجيه دفة صياغة المناهج بما يخدمها حتى يشعر المجتمع بأثر العملية التعليمية على حياته اليومية.
الحديث عن "المناهج" لا يعني عدم أهمية البيئة الحاضنة للعملية التعليمية وتطويرها وإدخال الوسائل الحديثة في العملية التعليمية والقضاء على التقليدية في العلوم والدروس، فإن هذا حتمي لازم في هذه المرحلة التي يقفز فيها التعليم في العالم بينما لا يزال أبناؤنا يدرسون بالطريقة التي درسنا بها دون أدنى فرق يذكر.. نعم نسمع كثيراً عن إدخال التقنيات الحديثة والتعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد في المدارس، ولكن الواقع يفتقد لهذا كله. وإن لم تكن العملية التعليمية تتوافق مع عقلية الجيل الجديد وتطلعاته ووسائله الحديثه فإن الفارق كبير بين ما نطلب وما هو واقع، وبين عقلية الجيل وعقلية صناع العملية التعليمية، وعلينا ردم هذه الهوة بخلق البيئات المتطورة، خاصة في هذه المرحلة التي نتمتع فيها بميزانيات ضخمة تحتاج إلى عقول تستثمرها في الواقع.
تطوير المناهج وبيئات التعليم ووسائله سوف ينتج لنا بلا شك المعلم الذي يمثل روح العملية التعليمية.. هذا المعلم يحتاج إلى أن يعطى الأهمية القصوى في المجتمع، وأن تزال الصورة السلبية في دونية مهمة المعلم، وأن وظيفته أرقى وظيفة. علينا أن نجعل الناس تتسابق للإبداع في التعليم، لأن المعلم هو الذي يقدم لنا الأجيال النافعة، وإعطاء المعلم قيمته هو سر تقدم الأمم الناهضة، وسر قوتها، ولما سئل رئيس الوزراء الياباني عن سر تقدم اليابان قال: "أعطينا المعلم راتب وزير وحصانة دبلوماسي ومكانة إمبراطور".. فبقدر الحوافز والمكانة التي نعطيها للمعلم بقدر ما يمكن محاسبته وعقوبته إن هو أخل بالأمانة التي حملها.
إننا متفائلون بقدوم سمو الأمير خالد الفيصل وزيراً للتربية والتعليم ليحدث هذه النقلة التي تحتاج إلى جرأة وإقدام وعزم وسرعة، فالزمن يسابقنا، ويسهم في تحقيق طموحات المجتمع والجيل في هذا الركن الركين والذي يشكل لب الوطن ومستقبله وحاضره، وإن لم نستثمر هذه المرحلة التي أنعم الله بها علينا من المال فإنه ربما يأتي يوم لا نستطيع فيه فعل شيء حتى لو كانت نياتنا وطموحنا ومقاصدنا سليمة وصادقة.