من التراث القديم أنه كان هناك رجل يحترف المصارعة ويتفاخر بين الناس بأنه يجيد القيام بـ 360 حركة من حركاتها، وكان لهذا المصارع المحترف تلميذ لم يدخر جهدا في تعليمه فنون المصارعة وحركاتها، وقد اجتهد الأستاذ في تعليم تلميذه 359 حركة فقط، انتصر بها على أنداده، وذاعت شهرته، وسكن في نفسه الغرور، وفي نهاية إحدى المباريات التي انتصر فيها ببراعة تجمهر المعجبون حوله، وفي أثناء نشوة النصر سأله أحدهم عن قوة أستاذه، فلم ينكر التلميذ أن أستاذه مصارع عظيم، ولكنه قال: مع احترامي له إلا أنني اليوم الأقوى، فانتشر الخبر بين الناس، واشتد الجدل بين المؤيدين للأستاذ، والمعجبين بالتلميذ، ووصل الخبر إلى السلطان فلم يعجبه ما قال التلميذ، وعدَّ ذلك من خصال عدم الوفاء والاحترام، فأمر بإجراء مباراة بينهما في مكان عام ليعرف التلميذ حقيقة نفسه، ويتوقف عن الغرور الذي أورده المهالك، وتم تحديد الزمان والمكان وجاء الناس لحضور المباراة من كل جهة، وعند حلول وقت المباراة أمر السلطان ببدء النزال، وأقبل التلميذ كالثور الهائج، وأقبل الأستاذ في هدوء واتزان، وصمم التلميذ أن يظهر كل ما عرفه من فنون القتال، ولكن الأستاذ كان له بالمرصاد، فبدأ التلميذ يشعر بالعجز والإخفاق، والتعب الشديد والإعياء، وقام الأستاذ باستعمال التمرين الأخير الذي لم يعلمه لتلميذه من قبل، وطرحه أرضا، ثم تقدم وأعاد عليه الهجوم تلو الآخر فسقط التلميذ وهو مذهول من هول المفاجأة، وانتهت المباراة بانتصار الأستاذ، وتقدم السلطان إلى المنتصر وقلده قلادة الظفر، ثم التفت إلى التلميذ الذي كان مطأطئ الرأس، والخيبة تعلو محياه، بعد أن خسر المباراة، وأستاذه، واحترام الناس، فقام السلطان بتوبيخه على جحوده، فقال التلميذ: الأستاذ أخفى عني أحد الفنون ولم يدربني عليه فغلبني به، فتوجه السلطان بالسؤال للأستاذ حول ما قاله التلميذ الخسران، فقال الأستاذ : أطال الله عمر السلطان؛ لم أعلمه التمرين الأخير الذي غلبته به، فقد كنت أخفيه لمثل هذا اليوم، ولا أحب أن يكون مصيري كما قال الشاعر:
"أعلمه الرماية كل يوم
فلما استد ساعده رماني"
والوفاء يا سيدي قل في هذا الزمن، وقد خفت أن يتعلم مني رمي السهام وتسديدها، فيجعلني أول هدف له..
بقي أن أقول إن البيت المتقدم ذكره ـ وكما تذكر أغلب المراجع ـ بيت للشاعر مالك بن فهم الأزدي المتوفى عام 157م، قالها وهو يحتضر بعد أن رُمي بسهم بالخطأ، واقتبس منه الشاعر معن بن أوس المزني المتوفى عام 683م قصيدته التي جاء فيها:
فيا عجبا لمن ربيت طفلا
ألقمُهُ بأطراف البنان
وكم علمته نظم القوافي
فلما قَال قَافية هجاني
أعلمه الفتوة كل وقت
فلما طر شاربه جفاني.
الناس تروي البيت "اشتدَّ" بالشين وليس بالسين، وهو خطأ شائع... يقول ابن منظور في "لسان العرب": "السَّداد بالفتح معناه الإِصابة في المنطق.. وكذلك في الرمي يقال سَدَّ السهم يَسِدُّ إِذا استقام، واسْتَدَّ الشيءُ إِذا استقام.."، وقال الأَصمعي: "اشتد بالشين المعجمة ليس بشيء"، وقال الصفدي في: "تصحيح التصحيف وتحرير التحريف": "يقولون: اشتدّ ساعده، والصواب: اسْتَدّ بالسين المهملة، والمراد به السداد في المرمى".. وبلا "تطويل"؛ القصة والأبيات تعكسان وبدقة جانبا من حكايات الخفافيش والغربان البشرية، التي لا تعرف إلا الجحود والنكران، وما أكثرهم بيننا.