يقال إن السعادة لا تشترى بالمال، وهذا غير صحيح، فالسعادة تشترى، بل ولا يشترط أن يكون الثمن الملايين، أو حتى الآلاف، بل ولا حتى المئات، إذ من الممكن أن تشتري جرعة من السعادة بعشرة ريالات.
لقد شاهدت مشهداً مؤثراً منذ أكثر من عشرين عاماً اشترى فيه طفل سعادة غامرة ببضعة ريالات دفعها أبوه. فقد كنت في بقالة كبيرة وكان في البقالة صندوق زجاجي به قطع صغيرة جميلة شهية من كيك الشوكولاته، ورأيت البائع يلتقط بعض تلك القطع ويضعها في كرتون، ثم سلم الكرتون لرجل كان واقفاً أمام الصندوق الزجاجي ومعه طفل صغير هو ابنه في الغالب، وسلم الأب الكرتون لطفله وذهب يدفع الحساب.
في تلك الأثناء لاحظت أن هناك طفلاً صغيراً آخر كان واقفاً هو الآخر أمام الصندوق الزجاجي يتطلع لقطع الكيك الشهية، وألقى نظرة على الطفل الآخر وعلى الكرتون الذي في يده، ثم عاد ينظر لقطع الكيك في الصندوق الزجاجي. ويبدو أن الطفل الذي بيده كرتون الكيك لاحظ ذلك وأدرك بحسه الإنساني على الرغم من صغره أن ذلك الطفل الآخر يتمنى أن يحصل على بعض قطع الكيك ويشتهيها لكنه لا يستطيع شراءها لعدم توافر الثمن معه، ولهذا رق له قلبه فقال لابيه عندما عاد بطريقة تقترب من الهمس ولكن مسموعة وهو يشير إلى الطفل الآخر وللشوكولاته التي في يده... ليه يا بابا ما نعطيه بعضها..؟ فقال الأب.. إيه نعطيه.. وطلب من البائع وضع قطع كيك إضافية في كرتون، وأخذ الكرتون من البائع وأعطاه طفله ليعطيه الطفل الآخر فتقدم الطفل في مشهد مؤثر جداً للطفل الآخر وأعطاه الكرتون، فتمنع ذلك الطفل في البداية فتدخل الأب وأقنعه بأخذه, فأخذه وانصرف بسرعة خارج البقالة ربما لشعوره بالخجل.
كنت.. متسمراً في مكاني أرقب ذلك المشهد المؤثر وقد لاحظت أن فيضاً غامراً من السعادة بدا على وجه الطفل وهو يتجه مع أبيه خارج البقالة، وتعجبت من تصرف الطفل وتساءلت عن دوافعه، ولماذا شعر بكل هذه السعادة؟؟ هو لا يتطلع لأجر، أي أجر، حتى ثناء الآخرين عليه، فلماذا يتعاطف؟ ولماذا يشعر بالسعادة.. أي ما هو الدافع..؟ ولم أجد غير إنسانية الإنسان.. التي تفجرت في نفس الطفل بكل صفائها وطهارتها وجمالها ورقتها ودفعته إلى ذلك التعاطف والتآزر مع الطفل الآخر دون رغبة في أي مقابل، ولكن تلك الإنسانية تهب المقابل دون طلب أو رغبة وهي تلك السعادة الغامرة التي بدت بوضوح على وجه الطفل وهو يغادر البقالة مع أبيه.
ومنذ أكثر من عشرة أعوام كنت في مستشفى الملك سعود (الشميسي) أتجه مشياً على قدمي إلى جهته الغريبة حيث مكتب مدير المستش في آنذاك على ما أذكر، ودخلت عن طريق الخطأ مبنى من دور واحد، ووجدت نفسي في غرفة كبيرة بها أجهزة عديدة لغسيل الكلى كانت كلها مشغولة، وكان بجانبها غرفة كبيرة أخرى يجلس بها عدد كبير اتضح لي أنهم ينتظرون دورهم في الغسيل، بعضهم يجلس على الكراسي وبعضهم في عربات متنقلة لعدم قدرتهم على المشي، ولاحظت أن هناك شيخاً كبيراً يجلس في عربته المتنقلة في مدخل غرفة الغسيل ويمسك بالعربة من الخلف ابنه الذي كان فيما يبدو مرعوباً وهو يتحدث إلى مسؤول الغسيل عن حالة أبيه ويقول... شوف.. شوف... ويرفع الثوب عن ساقي والده المتورمتين جداً.. ويقول.. عنده ضغط عالي.. وما يقدر يتنفس.. ومهوب بعيد يغمى عليه هالحين أو يمكن يموت إذا ما خذ الغسيل بسرعة.. تكفون أنقذوه.. والأب مهموم وحزين وواجم، ثم (خنقته العبرة) عندما قال المسؤول أنا والله ودي أعمل له غسيل ولكن مثل ما أنت شايف، وأشار لأجهزة الغسيل المشغولة، وللأعداد الكبيرة من المنتظرين، وقال.. شف.. كثير منهم على عربيات.. وحاجزين.. وأحوالهم يمكن مثل حالة الوالد.. أنا ما أقدر.. اسمح لي.. أنا والله ودي أساعدكم.. بس أنا ما أقدر ما في يدي شي.. وبصراحة أرعبني المشهد.. وهممت بالتدخل، ولكن وجدت ذلك تطفلاً، وتمنيت لحظتها أن أساعد ذلك الشيخ الذي يهدده الإغماء والموت إذا لم يحصل له الغسيل سريعاً، ولكن وجدت نفسي عاجزاً عن فعل أي شيء في تلك اللحظة، فانسحبت وأنا في غاية الحزن أفتقد السعادة التي كانت ستغمرني بقوة كما غمرت ذلك الطفل لو أني استطعت شراءها مثله في تلك اللحظة ولو حتى بأغلى الأثمان.. ولكن من أين وكيف..؟؟
الآن أتذكر تلك السعادة الغامرة التي اشتراها ذلك الطفل بعدة ريالات والتي كما بدت لي أكبر بكثير من سعادته بقطع الكيك، وأتذكر أيضاً تلك السعادة التي افتقدتها وتمنيت لحظتها أن أشتريها بأغلى الأثمان ولم أستطع لحظتها... تذكرت كل ذلك وأنا أهم ببعث رسالة نصية عبر جوالي بالرقم (1) إلى الرقم (5060) لأعطي شركة الاتصالات تفويضاً بإضافة مبلغ (12) ريالاً شهرياً لصالح جمعية (كلانا) مساهمة مني في إنقاذ كل مريض بالفشل الكلوي يتهدده الموت مثل ذلك الشيخ الذي رأيته في غرفة غسيل الكلى.
إن جمعية (كلانا) جمعية خيرية تحاول أن توفر العناية اللازمة لكل مريض بالفشل الكلوي مثل ذلك الشيخ الذي لم يستطع لحظتها الاستفادة مما توفره الحكومة من عناية صحية ربما لتزايد المصابين بالمرض وعدم القدرة على توفير التدابير السريعة وتحويل الموارد إلى خدمات، وهي (أي كلانا) توفر الخدمة باحترافية ومأمونية، ولذلك فلابد أن أشكر تلك الجمعية (جمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي)، فقد تكرمت علي ووفرت لي طريقة سهلة مأمونة غير مكلفة أستعيد بها إنسانيتي بكل صفائها وطيبها وجمالها وبراءتها تلك التي تفجرت في نفس ذلك الطفل الصغير لأتذوق السعادة الحقيقية التي يستطعمها الإنسان عندما يتصرف بهدي من إنسانيته لمساعدة الآخرين.
سيراودني ذلك الإحساس الغامر بالسعادة في كل شهر كلما سددت فاتورة جوالي وشعرت أني ساهمت في تخفيف مأساة إنسان، وهذا شيء جميل والأجمل منه أن (كلانا) وفرت لي أسلوباً آخر استطعم به السعادة كلما أردت بأن أتاحت لي الفرصة ببعث رسالة فارغة للرقم (5060) في أي وقت لأكون بهذه الطريقة السهلة المأمونة قد تبرعت بعشرة ريالات وهذا سيعطيني الإحساس بالسعادة كلما افتقدتها..
شكراً.. شكراً... فيض من السعادة بعشرة ريالات... يا بلاش.