أكمل الله إنشاءها في الرحم قبل أن يولد الإنسان، وجعلها سبحانه متيقظة لا تنام، بل أودعها آلة الاستدعاء من الموت إلى الحياة، ووضع فيها توازن الإنسان الجسدي، وكذلك أداة استقبال المعلومات التي بها يُقام الوزن بالقسط أو يُخسر الميزان، ولذلك شرفها ـ سبحانه ـ وقدمها على حاسة البصر في القرآن، وجعلها آخر ما يغادر الدنيا بعد موت الإنسان.

تُعرف حاسة السمع بأنها قدرة الأذن على التقاط ترددات الموجات الصوتية المنتقلة عبر عدة أوساط مادية كالأجسام أو السوائل أو الغازات أو الهواء. السمع عملية معقدة، فكل شيء يتحرك يحدث صوتاً، ويتكون الصوت من اهتزاز جزيئيات الهواء التي تنتقل في موجات إلى الأذن، حيث يتم تشبيعها وتحويلها إلى اهتزازات تنتقل عبر الأذن الداخلية ثم إلى العصب السمعي، ومنه إلى الجزء المسؤول عن السمع في الدماغ، الذي يقوم بدوره في ترجمة هذه الإشارات العصبية إلى ما نسمعه من أصوات.

وتختلف الأصوات من حيث التردد والشدة، فالتردد هو عدد الذبذبات التي تحدث كل ثانية وتقاس بالهرتز، أما شدة الصوت فهي كمية الطاقة في موجة الصوت وتقاس بالديسبيل.

وقد ترافقت كلمتا السمع والبصر في ثمانٍ وثلاثين آية كريمة، وفي جميع هذه الآيات القرآنية قدم الله السمع على البصر، فقال سبحانه وتعالى: "وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ". نعم، تقدم السمع على البصر في سبعٍ وثلاثين آية من الثماني والثلاثين آية، وفي آية واحدة تُعد حالة استثنائية في الآخرة تجسد هول ما تشخص إليه العين من عذاب آنذاك، تقدم الإبصار.. قال سبحانه: "رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ".

وفي تقديم الله السمع على البصر في آيات القرآن الكريم تشريف للسمع وإعجاز علمي بدأ العلم يكتشف بعضه. فالجهاز السمعي يتطور جنينياً قبل جهاز البصر، ويتكامل وينضج حتى يصل حجمه في الشهر الخامس من حياة الجنين إلى الحجم الطبيعي له عند البالغين ولا يكون ذلك إلا في الإنسان. وبذلك فإن الجنين يسمع الأصوات وهو في رحم أمه، بينما لا يبصر النور والصور إلا بعد ولادته، بل ولا يتكامل نضوج العينين إلا بعد سنوات.

والأذن لا تنام أبداً، وحتى عند النوم فإنها تبقى متيقظة لأنها أداة الاستدعاء التي توقظ الإنسان من نومه، قال سبحانه وتعالى في أصحاب الكهف: "فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانهمْ فِي الْكَهْف سِنِينَ عَدَدًا"، وبتعطيل سمعهم كتب الله لهم النوم مئات السنين.

ومن الحقائق التي تجعل السمع أكثر أهمية من البصر، أن تَعلُّم النطق يتم عن طريق السمع بالدرجة الأولى، فإذا وُلِدَ الإنسانُ وهو أصم فإنه يصعب عليه الانسجام مع المحيط الخارجي ويحدث لديه قصور عقلي وتردٍّ في مدركاته وذهنه ووعيه، ولذلك فمن يفقد السمع قبل النطق لا ينطق ويصبح أبكمَ، ولذلك قال تعالى: "وَاَللَّه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْع وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون".

بل إن العلم يبين أن الإحساسات الصوتية التي يسمعها الإنسان بأذنيه تصل إلى مستوى الوعي أفضل وأقوى من تلك التي تصل عن طريق البصر، فهي ترتبط بمراكز التفكير العليا في المخ ارتباطاً وثيقاً، وهي أهم في التعلم وأعمق في ذاكرة الطفل، ولذلك قال سبحانه وتعالى: "لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ".

وكذلك فإن مركز السمع في قشرة المخ متقدم على مركز البصر، فمركز السمع في الفص الصدغي، ومركز الإبصار في الفص المؤخرة.

لقد قام الباحث والطبيب الفرنسي ألفريد توميتيس على مدى خمسين عاما بدراسات على حواس الإنسان، واستنتج أن حاسة السمع هي أهم حواسه، حيث إنها تتحكم في الجسم كله من توازن وتنسيق للحركة إلى تنظيم العمليات الحيوية بل التحكم في الجهاز العصبي، وأن الأذن الداخلية موصلة بجميع أعضاء الجسم من القلب للرئتين للكبد والمعدة والجهاز الهضمي، ولذلك نجد أن ذبذبات الصوت تؤثر على الجسم كله.

أما حفظ التوازن فيتم في الأذن الداخلية، حيث تحتوي على أعضاء خاصة تستجيب لحركات الرأس فتعطي الدماغ معلومات عن أي تغيير في وضع الرأس، وبدوره يقوم الدماغ ببعث رسائل إلى جميع العضلات التي تحفظ الرأس والجسم متوازنين كما هو الحال في الوقوف أو الجلوس أو السير أو أي حركة أخرى، وأي خلل في هذه الوظيفة يجعل الإنسان غير قادر على القيام بأبسط الحركات مثل الوقوف وتجعله يشعر بالدوران ويسقط.

إن كل شيء في الكون في حالة تذبذب واهتزاز بما فيها كل مكونات جسم الإنسان، ومن المسلَّمات العلمية أن طاقة ذبذبات الصوت تُحدث تغييراً في المادة، خاصة في الماء الذي يشكل أكثر من 70% من جسم الإنسان. وقد أثبت العلم الحديث العلاقة الوطيدة بين ذبذبات الصوت وصحة الإنسان، بل أصبح من أهم مواضيع البحث في العصر الحديث.

بل يذهب الدكتور ليونارد هورويتس مؤكداً وجود أصوات ذات ترددات خاصة تحمل طاقة إيجابية تؤثر في تركيبنا الجيني وقدرتنا على تحقيق الشفاء الذاتي من داخلنا.

وقد استطاع عالم الفيزياء الحيوية الروسي جوتر جرجاجيف إثبات أن عمل الجينات الوراثية لا يقتصر على صناعة بروتينات الجسم كما كان يُعتقد سابقاً، وإنما تعمل كذلك على تخزين ونقل وتبادل المعلومات كما أنها تتبع مبادئ وقواعد اللغة من علم دلالات الألفاظ، وبناء وتركيب الجمل التي نستخدمها في حياتنا، وهذا يفسر تأثير الكلمة الطيبة أو الخبيثة والمدح أو الذم والتدريب الذاتي على الإنسان، بل استطاع فريق الباحثين إصلاح الخلل الجيني الوراثي عن طريق ترددات صوتية محددة عوضاً عن الطريقة التقليدية المختبرية القديمة في هذا المجال.

وقد أثبت العلم أن هناك أصواتاً وترددات تعين على شفاء الإنسان على قدر موافقتها وانسجامها للطبيعة والكون وفطرة الخلق والإنسان كصوت أمواج البحر وماء النهر وخرير الماء وتغريد الطيور وزقزقة العصافير وحفيف الأشجار.

وإذا كان للصوت أو الكلام كل هذا التأثير سواء السلبي أو الإيجابي على الإنسان، فما هو تأثير كلام الخالق وسماع تلاوة القرآن على الإنسان؟ كان الدكتور أحمد القاضي أستاذ جراحة القلب – رحمه الله – قد أجرى دراسات عديدة أظهرت أن للقرآن أثراً إيجابياً ومؤكداً في تهدئة التوتر، وأمكن تسجيل هذا الأثر نوعاً وكماً، وظهر هذا الأثر على شكل تغيرات في التيار الكهربائي في العضلات، وتغيرات في قابلية الجلد للتوصيل الكهربائي وتغيرات في الدورة الدموية وما يصحب ذلك من تغير في عدد ضربات القلب وكمية الدم الجاري في الجلد ودرجة حرارة الجلد.

أما المجموعة التي كانت تسمع وتفهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، أو يتحدثون اللغة العربية أو غيرها كانت النتائج إيجابية بنسبة 97%، وفي المجموعة الثانية ثبت أن لسماع تلاوة آيات القرآن أثراً واضحاً على تهدئة التوتر، ولو لم يفهم معناها، إذ حقق إيجابية قدرها 65%.

لقد شاء الخالق أن يجعل مركز التوازن الجسدي كله في أداة السمع في مكان دقيق في الأذن الداخلية، وقد يكون في هذا إشارة لطيفة مجازية تذكرنا بأهمية هذه الأداة كذلك في تحقيق التوازن والعدل في حكمنا على الأمور وإقامة الوزن بالقسط، فإننا إن استمعنا بقلوب واعية وضمائر حية هُدينا السبيل، وإن استمعنا بأهوائنا وشهواتنا ومصالحنا لم نزد بما سمعنا إلا الجهل والتضليل، فشتان بين سمع وسمع "وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ"، وربّ سامع أوعى من قائل.