لم يعد للإنسان ـ في خضم إيقاع الحياة المتسارع ـ بد من البحث عن لحظات سعيدة، ولم يعد له بد من استدرار هذه اللحظات، محاولة منه لإسعاد نفسه والآخرين المحيطين به. فالضحك ـ خاصة الابتسام منه ـ وسيلة اتصال إنسانية جبلنا عليها؛ للتعاطي مع هذه الحياة ومحاولة منا لتدجينها.
لم يعد إيقاع العصر بمروض لدواخل النفس البشرية بضغوطه وهمومه، إذا لم تنتصر عليه هي بما في دواخلها من فطرة، فطرت عليها، وهي استجلاب السعادة والبحث عن البسمة ومزاولة ضحكة مع صديق أو رفيق طريق.
الضحك نعمة من الله سبحانه وتعالى على خلقة، فلماذا لا نزاول نعمة، وننعم بها ونشكره عليها عز وجل؟
لقد تساءل الفلاسفة والعلماء عن الضحك، هل هو غريزة؟ أم هو مكتسب؟ ثم ما فوائده، وما آلياته؟
حقيقة، إنها أسئلة محيرة، واتخذت مباحث عدة من علماء النفس والفلاسفة، ومن منظري الإضحاك وكيفية استدراره. ولعل ذلك يقودنا إلى هذه الخاصية التي منحها الله لعباده كونها نعمة جليلة لها فوائدها على حياة الإنسان.
ذهب أفلاطون إلى أن الضحك مفسد لجمهوريته الفاضلة؛ وذلك لأنه خلص بعد دراسته للضحك ـ وهي الأولى من نوعها ـ إلى أنه لا يليق بمواطني جمهوريته الفاضلة، لقدرته على إفساد الوضع القائم، وحيلولته دون التحكم في انفعالات الناس كشرط لاستقرار الجمهورية! فهو يدفع بهم إلى الابتذال والطيش، وإلغاء الحواجز التي نصبها أفلاطون بكل صرامة بين العامة وذوي المقام الرفيع!
وذلك لأن أفلاطون نشأ نشأة أرستقراطية، وكان من مؤيدي الحفاظ على الفوارق بين الطبقات ليس إلا. أما الجاحظ فله رأي آخر، إذ يرى أن "الضحك خير كله، وهبة ربانية مودعة في أصل طبعه وتركيبه. كيف لا وهو أول خير يظهر من الصبي، إذ به تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوته".
أما في العصر الحديث، فقد ذهب منظرو علم النفس والفلاسفة إلى أن الضحك غريزة فطرية لكل مخلوقات الله، ولا تقتصر على الإنسان فحسب، فاستدل عالم النفس فرويد، على أن الابتسامة هي مشروع ضحكة، فتعمل الابتسامة على تقلص عضلات الفكين، ومن هنا برهن على أن أول ظهور للابتسام، هو عندما يغنم الأسد بفريسته، ويضغط عليها بفكية فكانت أول ظهور للابتسام. ثم أضاف أن فتح فم الطفل للرضاعة هو نوع من مشروع الابتسام، ومن هنا كان يبرهن على أن الضحك هو غريزة فطرية وليس مكتسبا، ومن هنا اتكأ على غريزة الانتصار، فارتبط الضحك بالانتصار على الدوام!.
وللضحك فوائد جمة يقرها العلماء، ومنها: "أنه يدفع الدم على ضخّ مادة الأندروفين، المسؤولة عن الشعور بالفرح، وهي أيضا وسيلة لتهدئة الألم والقلق. يخفّض الضحك أيضا مستويات "الكورتيزول" هورمون القلق، ويقدّم دفعة سريعة من الطاقة. كما أن الضحكة الكبيرة من القلب مفيدة للرئتين، تقوّي جهاز المناعة ويمكن لها أيضا أن تحرق السعرات الحرارية. يلاحظ كذلك أن الأشخاص الضاحكين أو الذين يحافظون على وجه مبتسم هم غالبا أشخاص محبوبون في المجتمع، ولديهم الكثير من الأصدقاء، وناجحون في الحياة؛ لأنهم يظهرون أكثر ثقة وودية".
وبالرغم من أن الضحك فطري؛ فطر عليه الإنسان، إلا أن للعب مدارجه وفنونه في عملية استدرار الضحك، فقد تساءل برجسون في كتابة فلسفة الضحك عن فنون الإضحاك وإخراجه من مدارج الفطرة إلى فنون الصناعة واللعب.
التساؤل حول معنى الضحك، هو في الحقيقة، تساؤل عن معنى الحياة. كونه من معالم النشاط الحيوي كوثبة إلى صناعة جديدة وفنون عظيمة، تستهلك الطاقة وتخلص الجسد من الزائد عنه، لما تسببه تلك الطاقة الزائدة من توتر وكآبة فيقول عن فنون الإضحاك إنها: "شيء حي. ونحن نعالجها، مهما كانت خفيفة، بما يجب من احترام للحياة". وبما أن الأصالة الهزلية تنبثق من الحياة الواقعية، وتقترب من الفن، "فكيف لا تقول لنا كلمتها أيضا في الفن والحياة؟". ولعل فنون الكوميديا في المسرح هي أبرز فنون استدرار الضحك، ولذا كتب برغسون كتابه عن هذه الظاهرة.
ولعل الفرق بات واضحا بين الضحك، وبين الكوميديا، بالرغم من اجتماعهما في وعاء واحد؛ فالضحك عملية فسيولوجية تنتج عن زغزغة أو مداعبة الأطفال على سبيل المثال، أما الكوميديا فهي فنون صناعة الإضحاك واستدراره عن طريق إعمال العقل واللعب والهزل؛ وذلك لأنه يتبادر للذهن لأول وهلة، رد فعل طبيعي إزاء موقف يتسم بالغرابة أو الخلل في التصرف المنطقي السليم.
فاللعب والهزل من مكونات الحياة. السؤال الذي يطرحه برغسون هنا، هو معرفة ماذا يوجد في عمق الشيء المضحك. ماذا يوجد من مشترك بين تكشيرة المهرج، والتلاعب بالكلام، وغمز المسرح الهزلي، ومشهد الكوميديا الذكية؟ ما هذا التقطير الذي يعطينا روح العطر، الدائم الذاتية، الذي تأخذ منه المستحضرات المتنوعة: إما رائحتها المزعجة وإما عطرها الناعم؟
كانت لي صديقة حميمة تجاوز سنها السبعين عاما، ومن ينظر إلى وجهها وبشرتها وحيويتها يخال أنها من ذوات الأربعين عاما، وحين سألتها عن سر حيويتها أجابتني: إنه لا يمر عليها يوم من الأيام دون ضحك، وفي ذات يوم لم تجد ما يضحكها، فألقت برداء لها على الأرض ثم جمعت نسوة أبنائها، وجعلت جائزة ثمينة لمن تستطيع منهن رفع الرداء من على الأرض، وكانت المفارقات تأتي تباعا من نسوة أبنائها، بين الخوف والإقدام، والجسارة والتراجع في مناخ من التوتر والقلق مما يفجر طوفانات من الضحك، ثم تقدمت هي بيدها ورفعت الرداء لتكشف لهم سر المفاجأة بأنه لا شيء تحته، وتكشف لهن جبنهن وخوفهن وعدم إقدامهن.
وإذا ما تأملنا الموقف هذا بعين صناعة الإضحاك، فسنجد أنه من نوع الكوميديا الهزلية المعتمدة على إعمال العقل، والقائمة على كوميديا الموقف، أي خلق موقف يترتب عليه مجموعة من المواقف وبالاكتشاف "المفارقة" ينتهي الموقف، متمخضا عن متعة وسعادة واسترخاء، وما أحوجنا في يومنا هذا لهذه اللحظات وخلق نوع من المرح والبهجة لمن حولنا؛ كي نستطيع مواكبة الإيقاع المتسارع لواقع فرض علينا قسرا.