هل يمكن أن نتصور أن عرضا تلفزيونيا عاما يقدم شرحا وافيا لآلية صنع المخدرات! بل ويتجاوز ذلك بالتعريف عن المصادر الأولية المتوفرة في السوق المحلي، والتي يمكن تحويلها إلى مخدرات ضارة، فقط بعد بضع عمليات كيميائية محددة! هذا بالفعل ما كان يحدث في المسلسل الأميركي الشهير: Breaking Bad أو "التحوّل السيئ".
خلال خمس سنوات استطاعت هذه القصة التلفزيونية الناجحة أن تلفت الأنظار إلى العالم السفلي لتصنيع وتوزيع وبيع المخدرات، ليس فقط على مستوى المطاردة اليومية بين رجال مكافحة المخدرات ورجال العصابات، وليس -أيضا- على مستوى الصراع بين العصابات المتنافسة، بل على المستوى العائلي البسيط لكل من يشارك في تجارة المخدرات، وهو ما قد يعد التناول الأول من نوعه بهذا الأسلوب المغرق في التفاصيل الدقيقة، بيد أنها كانت أساسية لكي يدرك الإنسان إلى أي درك أسفل يمكن أن يصل إليه كل من يغرق في وحل المخدرات.
فبطل القصة معلم الكيمياء "والتر وايت" رجل عادي من الطبقة المتوسطة، يكتشف إصابته بسرطان الرئة، وأنه بحاجة على الأقل إلى 737 ألف دولار أميركي فقط لمحاولة علاج السرطان ولتغطية احتياجات عائلته بعد وفاته، ليتخذ بعد ذلك قرارا مصيريا سوف يكلفه الكثير، وغني عن القول أنه سوف يندم عليه كثيراً؛ هذا القرار لم يكن سوى تحوله إلى صناعة المخدرات بالتعاون مع طالبٍ مدمن سبق أن درسه في الثانوية!
فمن الحلقة الأولى تنهمر مشاهد طرق ووسائل تصنيع مخدر Methamphetamine بقدرٍ من التفصيل المثير للانتباه، دون إغفال وسائل الحصول على المواد الخام الداخلة في التصنيع، وطرق شراء أجهزة وأوعية القياس والتكثيف والخلط والتكسير وغيرها، والحقيقة أن عددا من حلقات المسلسل مليئة بالمعلومات الصحيحة والدقيقة عن حقائق الكيمياء المجردة، وآلية صنع المخدرات. والعجيب أن وكالة مكافحة المخدرات الأميركية DEA ورغم أنها من أشد وكالات مكافحة المخدرات ضراوة في العالم، إلا أنها شاركت بقوة في تقديم المعلومات والاستشارات العلمية والفنية لمبتكر المسلسل وفريقه من الكتاب، وذلك إيمانا منهم أن مثل هذه المسلسلات الدرامية خير وسيلة لتوعية الأجيال الشابة بالأضرار المتعددة للمخدرات، فالجميع تقريباً يعرف أضرار المخدرات على الفرد بذاته، ولا أعتقد أن هناك شخصا ما يجادل في كون المخدرات أحد أهم أسباب تدمير أي أسرة كانت، فضلاً عن الحصول على معلومات حول آلية طرق تصنيعها التي لم تعد صعبة كما كانت، والفضل يعود إلى الانفجار المعلوماتي في شبكة الإنترنت، ولكن ما كان يعرضه فريق المسلسل بمحتواه المشوّق تجاوز ما يقدم في العادة من صورٍ نمطية عن المدمنين، وكذلك عن الأفراد المشاركين في صناعة المخدرات وتوزيعها، وهي الصورة التي لا تزال مسلسلاتنا الدرامية العربية تراوحها منذ عقود، فالحبكة القصصية معروفة، مجرد مدمن مخدرات شاب، يبحث عن المال، مشتت التفكير ومصاب بالصداع، وغالبا ما يكون رث الملابس، دون الخوض في التفاصيل اليومية، وهي التي تختلف كثيراً عما نراه في المسلسلات الغربية! بينما استطاعت هذه الدراما الأميركية أن تنقل بتجرد صوراً متنوعة لجميع الأطراف الداخلة، بداية من المصنع والموزع والبائع، مروراً بالمدمنين وعوائلهم، وانتهاء بمكافحي المخدرات وعوائلهم.
تقول "جيسي بولك" المختصة في سياسات مكافحة المخدرات: "مسلسل التحوّل السيئ استطاع نقل واقع الأشخاص المتورطين في تجارة المخدرات بشكل أفضل من أي سياسة مكافحة مخدرات"، والحقيقة أن المسلسل استطاع بأسلوب متقن نقل ما يطلق عليه خبراء محاربة المخدرات بـ"تأثير الصرصور" The Cockroach effect والذي غالباً ما يستخدم في وصف استهداف إدارات المكافحة لزعماء عصابات المخدرات، إذ يشير المصطلح حرفياً إلى القضاء المتواصل على هذه الآفات من البشر، وكيف أن الدوس على واحدٍ منها، سوف يشجع الصراصير الآخرى على الهرب والتبعثر؛ لكن أعداد الصراصير الناتجة عن ذلك سوف تتضاعف في طريقك! أما من الناحية المجازية فإن التأثير يشير إلى التكاثر السريع لمنظمات وعصابات المخدرات بعد كل مرة تستهدف أو تفكك إحدى العصابات، وكيف أنه يمكن لاثنتين أو أكثر من العصابات الجديدة أن تظهرا نتيجة غياب القيادة المركزية أو الصراع داخل العصابة الواحدة نفسها، ذلك أن استهداف الرجال المهمين في أي عصابة لا يعني بالضرورة أن عصابة أحدهم سوف تتوقف عن العمل بمجرد غيابه، لأن شخصاً ما سوف يقفز إلى كرسي الزعامة على الفور، أو أن العصابة ستنقسم إلى فصائل متناحرة، لكن الرسالة المهمة هنا في المسلسل: أن الجميع وبداية من "تاكو" رجل العصابة المحلية، إلى الرجل القوي "غوستافو فرينغ"، حتى معلم الكيمياء المتحوّل "والتر وايت" سوف يتجرعون سموم تقلب هذه التجارة وخطورتها، والجميع في النهاية إما أن يلقى القبض عليه، أو أن يقتل على يدي منافسين أو على يد رجال مكافحة المخدرات، لأنه ببساطة لا يستطيع أحدٌ ما ترك هذه التجارة بملء إرادته.
هذا الهوس بالتفاصيل والقرب من الواقع؛ جعل هذه الدراما تنتشر بين الجماهير كما تنتشر النار في الهشيم، وأضحت حديث الناس اليومي، وجعلتهم أكثر إدراكا لعالم المخدرات الخفي، وكل من يدور في فلكها، لدرجة أن مجتمعا إلكترونيا متكاملاً ظهر بواسطة متطوعين شباب، في منصة "ويكيا" Wikia للمجتمعات الإلكترونية المفتوحة، واحتوت حتى الآن على ما يزيد على 745 مقالة، وأكثر من 2600 صورة، والمئات من المقاطع المرئية، ومنتدى للنقاش، ومعلومات عن الشخصيات والممثلين، والكثير من المعلومات. وغني عن القول أن هذا المجتمع الإلكتروني التفاعلي قاد إلى مزيد من التعرف على مخاطر المخدرات وأضرارها على كافة المستويات، وبالذات للشباب دون سن الثلاثين، ممن ينفرون –عادة- من البرامج التوعوية التقليدية، فضلاً عن تسجيل تقارير صحفية عن اعتماد بعض عيادات علاج الإدمان في مدينة "ألباكركي" Albuquerque أسلوب مشاهد المسلسل في خطتها العلاجية، بهدف زيادة التزام المدمن بالعلاج وفترة النقاهة، وهي بالمناسبة المدينة التي صور بها المسلسل، وترزح تحت نسبة مرتفعة من المدمنين مقارنة بمدن أميركية أخرى.
من نافلة القول أنه يقع على عاتق كلٍ من المديرية العامة لمكافحة المخدرات واللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات مسؤولية أخلاقية متواصلة تجاه رفع مستوى الوعي بأخطار المخدرات وأضرارها، ليس فقط على المدمنين وعوائلهم؛ بل حتى على كل من يقترب من تجارة المخدرات، فهي التي يجب أن تستلهم نجاح هذه الدراما الأميركية الجريئة، التي اقتربت من موضوع المخدرات دون حواجز أو تحفظات، مما جعل المشاهد يقبل عليها بشكل فاق جميع التوقعات، وتعمل على تحفيز المنتجين للعودة نحو إنتاج دراما محلية تعتمد قصتها الأساسية على قصة حقيقية حدثت في مجتمعنا السعودي، وليست مجرد قصة خيالية دون معنى على أرض الواقع. وأكاد أجزم أن هناك الكثير من القصص والمآسي لا تزال تئن بين جدران السجون والإصلاحيات المحلية، فقط كل ما يحتاجه الأمر مجرد الإيمان بأهمية الدراما ودورها المحوري في حربنا المتواصلة على المخدرات ومشتقاتها. كفانا الله وإياكم شرور المخدرات، وحفظ الله شبابنا من كل متربصٍ وحاقد.