لا يحفل الدرس اللغوي في مؤسساتنا التعليمية كثيرا بمهارات التواصل الشفهي، ولا يوجه إليها طاقته التنموية على صعيد الآلية المبتغاة، ودليل هذا ما نراه في جلّ نشاطات أبنائنا اللغوية المتعلقة بإبداء الرأي أو تفسير ما يحدث حولهم أو التعليق عليه، أو على أقل تقدير وصف الموجود المادي أمامهم، حيث لم تتنبه المقررات إلى هذه الثغرة المهارية إلا منذ أربع سنوات تقريبا حين نصت على المهارات اللغّوية الأربع بوصفها تطبيقات عملية تتضمنها استراتيجيات التدريس، فأصبح للتحدث باعتباره مهارة إنتاج لغوي حيز ممارس وأنشطة عديدة. هذا إذا سلمنا أن المعلمين يعطون ذلك المعطى حقه من التدريب والممارسة والتقويم الدائم، الواقع أن ذلك لا يحدث على المستوى المأمول، ولعل ما نلمسه – كتبت عن تلعثم بعض المتقدمين على الوظائف التعليمية أثناء المقابلات الشخصية – من حالات قصور في مهارة التحدث عند الطلاب أو بعض المعلمين" لا تعجبوا" دليل جلي على أنّ مهارة التحدث مغفلة ظنا أن غيرها يمكن أن يعوضها وأن الكتابة مثلا أو القراءة مهارتان كافيتان لفعل حياتي مؤثر، وهذه- في ظني- رؤية محدودة خاصة حين يتعلق الأمر ببناء شخصية الطالب التواصلية الاتصالية، وما يقتضيه ذلك من توافر مهارتي القراءة والاستماع باعتبارهما مهارتي" استقبال" ومهارتي الكتابة والتحدث بوصفهما مهارتي "إنتاج" كما ذكرنا في مقدمة المقال، وأن المهارات الأربع يفيد بعضها من بعض، فالقراءة بكل تقنياتها وأنواعها والاستماع بما يتطلبه من مقومات تغذيان مهارتي الإنتاج "الكتابة والتحدث" وتمدانهما بالدخل اللغوي المطلوب وتعين على اقتباس ومحاكاة التراكيب والسياقات المقروءة والمسموعة بل تفتح أفقا أوسع – بعد الممارسة والمثابرة- على صناعة تراكيب مواكبة للنص الأصلي أو التفوق عليه بنص أصيل مختلف، وهنا تنطلق شرارة الإبداع وتتغير زاوية الرؤية ويستحيل الفعل اللغوي فعلا سلوكيا ملازما للمرء وممتعا إلى حدّ بعيد.

قبل مدة وجيزة طلبت من معلمين متقدمين إلى ترشيح ما أن يتحدثوا في أي موضوع يريدونه ولمدة دقيقة واحدة بلغة فصيحة خالية من اللحن والعامية المغرقة على أن تكون الجمل متوالية دون مالئات كلامية، فاستقلوا الطلب وهان عندهم قصر زمن الاختبار، لكنهم ما إن بدأوا حتى بدت الكلمات وكأنها أحجار ضخمة لا تكاد تتحرك، والأنفاس تتلاحق محدثة فراغا صوتيا خاليا من أي تعبير، ليعترف أحدهم بكل شجاعة بعجزه عن الاستمرار لدقيقة كاملة على هذا النحو.

التحدث بلغة مؤثرة واضحة سليمة سبيل التواصل الجيد، وطريق معبّد للإقناع، ولن يكون مهارة حية دون رصيد لغوي تمدنا به اللغة حين تكون ممارسة يومية محترمة.