رحيل غازي القصيبي وضرورة تكريمه بعد رحيله، يفرض علينا أن نُعيد التفكير من جديد، في طريقة تكريم من رحل عن دنيانا من الكبار، فلا نكتفي بتدبيج مقالات الرثاء والمديح، وذكر المحاسن، أو بإطلاق أسماء هؤلاء على الأماكن والمرافق العامة... إلخ، وإنما أن نهتدي بما تفعله بقية الأمم في تكريم عظمائها بعد رحيلهم.. فماذا تفعل هذه الأمم؟


أفعال الأمم الراقية


إذا كان من رحل من السياسيين، فإنهم ينشئون لهم المكتبات، حيث تُحفظ فيها آثارهم، ويتبرعون لها بالأموال المجزية، ويقوم الدارسون بدراسة مناهجهم السياسية، ووضع المؤلفات عنها. ومن الجامعات الشهيرة، من تفتتح كليات في الإدارة السياسية، والإدارة الحكومية باسم هؤلاء، كما فعلت جامعة "هارفارد"، حين افتتحت كلية أطلقت عليها: "كلية جون كيندي للحكومة". تكريماً للرئيس الراحل جون كيندي، واعترافاً بفضله، ودوره في التاريخ الأمريكي المعاصر. وهناك أمثلة كثيرة ومختلفة، لهذا الأسلوب من تكريم السياسيين، والزعماء الراحلين في الغرب.

وإذا كان من رحل من رجال الأعمال، أو من الاقتصاديين، أنشؤوا له كرسياً جامعياً باسمه، وأوقفوا له وقفاً بذلك، لكي يتمَّ الصرف منه على هذا الكرسي. وهيؤوا له فريقاً من الباحثين لدراسة سرِّ نجاحه الاقتصادي، ودور هذا النجاح في بناء اقتصاد الدولة، والأمة. وتدريس بعض أساليبه الناجحة في الاقتصاد، لكي تُتخذ كنماذج ناجحة من المفيد تقليدها، أو إعادة إنتاجها. ورصدوا باسمه الجوائز للمسابقات العلمية بين الطلبة المتفوقين، كما رصدوا الأموال اللازمة، لتعليم الطلبة الفقراء المتفوقين لتمكينهم من نيل أعلى الدرجات العلمية. أما إذا كان من رحل من الأدباء أو الشعراء، فإن الجامعات والنوادي الأدبية تقوم بتنظيم ورشات عمل، للبحث والدرس فيما تركه الأديب أو الشاعر من آثار أدبية، كما تقوم الدولة بدعم إعادة نشر آثاره وبيعها بأسعار رمزية لكي تكون في متناول الجميع، وإنشاء المسابقات الأدبية والشعرية، حول أدبه وشعره، وليس إطلاق اسم من رحل على هذه المسابقات فقط. وهو ما فعلته الجامعة الأمريكية في القاهرة، حين أنشأت عام 1996 جائزة للرواية باسم الروائي الراحل نجيب محفوظ قبل رحيله عام 2006 بعشر سنوات، تمنح الروائي الفائز جائزة مالية. ولكن الأهم، هو ترجمة الرواية الفائزة إلى اللغة الإنجليزية ونشرها. وهو ما لم تقم به أية جامعة عربية في مصر، أو في خارجها. وإذا كان من رحل من رجال التربية، كالسويسري جان بياجيه (1896- 1980) صاحب نظرية "المعرفة الوراثية" Epistémologie Génétique ورائد المدرسة البنائية في علم النفس المعرفي Psyshologie Génétique وعلم نفس الطفل على وجه الخصوص، فمن الملاحظ القيام بتكريمه في حياته أولاً، ثم بعد رحيله. وقد تمَّ تكريم بياجيه في حياته، بمنحه عدة درجات علمية. فقامت جامعة "هارفارد"، بمنحه درجة علمية في 1936، وكذلك فعلت جامعة السوربون في عام 1946. وقامت جامعة بلجيكا والبرازيل كذلك في عام 1949.

فهكذا يتم تكريم عظماء الأمم الراقية.





هؤلاء الراحلون الأحياء


رحيل غازي القصيبي، كان له دوي كبير في السعودية والخليج والوطن العربي، نظراً للمكانة الرسمية السياسية والثقافية التي كان يتمتع بها القصيبي الراحل. وقد ذرف المؤبِّنون دموعاً غزيرة على رحيله، ولم تبقَ كلمة حق تقال في رحيل القصيبي إلا وذُكرت، من أكثر من كاتب، ومُحب، ومُعجب بالقصيبي، ودوره الإداري والسياسي والثقافي، على مدى أربعين عاماً مضت (1970-2010). ومن واجبنا اليوم، ألا ننسى القصيبي، ورحيله المفجع عنا بعد أيام، دون أن نفكر جيداً، في كيفية تكريمه، وإبقائه حياً في ذاكرة الوطن والمواطنين. وهو الراحل الحي بدواوينه الشعرية، ورواياته، وكتبه الفكرية/السياسية، ومقالاته، وندواته، وإنجازاته في المهام الإدارية والوزارية التي تسلَّمها.


اقتراح حضاري وجيه


ولعل الوحيد الذي طرق موضوع: "الأسلوب الرشيد في تكريم الفقيد"، كان التنويري مشاري الذايدي في ("الشرق الأوسط"، 20/8/2010) الذي قال بجدوى إطلاق اسم غازي القصيبي على أكاديمية للتدريب في شركة "سابك"، لتدريب الشباب السعودي على أُسس العمل الحديث وفق فلسفة "سابك"، وغازي القصيبي. وقال الذايدي: إن هذا أفضل تكريم للراحل، وأفضل تجسيد لما يمكن أن يكون غازي يريده من منفعة لهذه الشركة، تجاه أبناء السعودية. "فليس من الضروري أن يكون العمل الخيري الدائم، توزيع أكياس رز، أو بناء مسجد فقط. فهذه وتلك، من أعمال خير. ومطلوب فقط توسيع النظر، في فهم معنى الخير." ومعاني الخير كثيرة، فيها فائدة للوطن والمواطنين، وفيها تخليد لذكرى الراحل غازي القصيبي. فقد ذكر خالد آل هميل، في مقاله ("الوطن"، 22/8/2010) أن "نسبة البطالة في السعودية تصل إلى 10%، بينما وزارة العمل، وفق تصريحات رسمية، أقرَّت بأن نسبة البطالة 28% بين النساء المتعلمات." ويضيف آل هميل قائلاً: "هناك من يقول، إن نسبة البطالة في بلادنا تتجاوز ما تمَّ الإعلان عنه، من أنَّ هناك مليون سعودي حالياً عاطل عن العمل، وفق أقل التقديرات." وأضاف خالد آل هميل في مقاله المهم قائلاً، كمن يدق ناقوساً ضخماً للخطر الداهم: "المسألة تحتاج إلى حلول عاجلة، قبل أن تتفجر هذه البطالة في وجه المجتمع." وأعتقد أنَّ معظمَ رجال الأعمال السعوديين، قد قرؤوا هذا الكلام المهم والخطير. وأعتقد أن الذكي والوطني منهم، هو من يبادر إلى إيجاد فرص عمل لمزيد من الشباب السعودي، وفاءً منه لجهود غازي القصيبي في التقليل من مضار البطالة السعودية، التي يقال إنها طالت حتى العائدين من البعثات الخارجية بعد تخرجهم، مما يشكل خطورة ومحاذير كثيرة على الوطن والمواطنين.


دراسات نقدية تخليداً للراحل


كان الراحل غازي القصيبي شاعراً، وروائياً، ومحدثاً مثقفاً، وكاتب مقالة. وأنا من موقعي كناقد أدبي، أرى أن أدب القصيبي في شعره ونثره لم ينل حظه الكافي من الدرس والتحليل والنقد، رغم ما فيه من جوانب ريادية، ومبادرات جديدة، وخاصة في المجال الروائي، وهو ما يستدعي تحليله ودرسه. وأعتقد أن ناشره الصديق ماهر كيالي (المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان) على استعداد لنشر أية دراسة جادة عن أدب القصيبي. وذلك هو التكريم الحقيقي للراحل غازي القصيبي.