في يوم السبت 20 محرم 1435 الموافق 23 نوفمبر 2013، وفي تمام الساعة 1:13 ظهراً، اتصل بي معالي الدكتور محمد الرشيد، وكنت خارج المملكة وتحدثنا كالعادة بحميمية متناهية، يعرفها كل الذين يعرفونه، إلى درجة أن كل واحد ممن يعرفونه يشعر أنه الأقرب إلى نفسه، وهي ميزة من مميزات عديدة في شخصيته. وانتهى الحديث بعتابه المحبب لكل أصدقائه عندما تطول غيبتهم.. وفي مأدبة العشاء ذلك اليوم وعند الساعة العاشرة والنصف تقريباً بتوقيت المملكة كانت فاجعة تلقي خبر وفاته عبر رسالة نصية.. كان يحدثني قبل ساعات وهو في كامل صحته وصوته المعهود الذي لا يبدو عليه أي نوع من الإعياء أو التعب.. وعرفت لاحقاً أنه حضر سبتيته كالعادة واستقبل وودع ضيوفه وهو بكامل صحته، لكنها الأقدار واليوم الموعود، وقلنا ما يقوله الصابرون المحتسبون: لا حول ولا قوة إلا بالله.

حديثي عن الدكتور محمد الرشيد لن يكون جديداً، ولن يستفيد منه أحد فأزعم أن كل من يقرأ هذا الحديث يعرف الرشيد بطريقة أو أخرى ويعرف من صفاته الكثير، فهو شخصية عامة وله مساهماته المجتمعية التي وصلت إلى كل فرد في هذه البلاد حتى الذين لم يلتقوا به يتحدثون عنه وكأنهم يعرفونه، لكنني أتحدث هنا من باب الواجب والوفاء لهذا الرجل الكبير علمًا وعملاً وكان قدوة لكل من عمل معه على المستويين الرسمي والشخصي. الحديث عن الدكتور محمد الرشيد ليس سهلاً، فجوانب شخصيته متعددة والإلمام بها وإعطاؤها حقها في عجالة كهذه لا يفيها حقها، خصوصاً لمن عرفه لفترة طويلة وعرف معظم جوانب شخصيته، وتعامل معه على كل المستويات الشخصية والرسمية. عرفت الدكتور محمد الرشيد طيلة عمله في الوزارة لما يقارب السنوات العشر كمدير عام ووكيل مساعد، ثم ما بعد الوزارة كأخ وصديق. اتصلت به أول يوم من تعيينه وزيراً للتربية والتعليم عام 1416هـ وكنت أعمل مديراً عاما للتعليم بمنطقة تبوك، وظننت أن المكالمة لن تتعدى ثواني أو دقائق قليلة جداً لتأدية واجب التهنئة بمنصبه الجديد وأننا سنكون عوناً له بعد الله.. وأعددت بعض العبارات الرسمية التي توقعت ألا تتعداها تلك المكالمة.. وفوجئت على الطرف الثاني برجل يحدثني وكأنني أعرفه منذ عشرات السنين. وقال إنه يعرفني وقد سأل عني أخاه الدكتور عبدالله الذي سبق أن زارنا في تبوك.. وإن.. وإن.. ولم تلبث المكالمة أن تحولت إلى مستوى أخوي حميمي بعيدة عن الرسميات، عرفت فيما بعد أنها إحدى صفاته الرائعة، وهي أن يشعر الذي أمامه أنه قريب إلى نفسه بمجرد الحديث معه حتى وإن كان يتحدث معه لأول مرة. وسألني أثناء المكالمة إن كنا نستطيع في تبوك أن نستضيف أول لقاء لاجتماع مسؤولي الوزارة ومديري التعليم في تبوك.. اللقاء الذي استمر إلى اليوم باسم "لقاء قادة العمل التربوي". وأجبته بالإيجاب.. وكان اللقاء في نفس العام الذي تم تعيينه فيه، وسمي ذلك اللقاء "لقاء القرارات"، نظراً لما اتخذ فيه من قرارات مهمة شكلت جزءاً مهماً من مسيرة التعليم في بلادنا. وفي أثناء ذلك اللقاء وقبله محاضرته الشهيرة التي طبعت في كتاب، كان الدكتور محمد الرشيد يحدثنا عن خطوات تشبه الأحلام. كنا في ذلك اللقاء وفي اللقاءات السنوية وفي لقاءات خاصة يأخذنا نحن مسؤولي الوزارة خارج الرياض بحجة إبعادنا عن ارتباطاتنا الخاصة. كنا نجتمع من الساعة الثامنة إلى الثامنة مساء، وبعض تلك الاجتماعات كانت تمتد إلى ما قبل منتصف الليل. وكان يرجونا ألا نتأخر عندما نذهب للوجبة أو للصلاة.. وكان ـ رحمه الله ـ يطرح القضية ويسمح بنقاشها إلى أبعد الحدود. وبالرغم من أن بعض القضايا كانت من اقتراحاته إلا أنه لا يمانع في استبعادها بعد النقاش عندم ينقدح لزملائه عدم جدواها. وكان يقول لنا بعد مناقشة مثل هذا النوع من القضايا: "يا جماعة استشيروا قبل أن تقرروا، فوالله إنني كدت أصدر قراراً وزارياً باعتمادها". تم انتقالي بعدها إلى الوزارة، فصلت بينهما فترة وجيزة أخذت فيها تفرغاً علمياً لمدة عام كأستاذ في كليات المعلمين، وتم إلغاء قرار تفرغي العلمي بقرار منه ـ رحمه الله ـ بعد فصل دراسي واحد، كنت قد نشرت فيه مع إجازة الصيف التي سبقت ذلك الفصل الدراسي أربعة بحوث تمت ترقيتي بموجبها إلى أستاذ مشارك.. واستدعاني ـ رحمه الله ـ بعد جولة له في عدد من دول العالم، وكلفني بإعداد برنامج اعتماد للمدارس كان ـ رحمه الله ـ وراء ظهوره ونجاحه إلى أن أصبح إدارتين عامتين للتقويم الشامل للمدارس في البنين والبنات.. كلفني بعدها وكيلاً مساعداً للدراسات والبحوث، وكان يحرص كل الحرص على زيادة الميزانية واستثمارها بالكامل في خدمة قضايا التعليم لإيمانه العميق كأكاديمي أولاً بأهمية البحوث في التطوير واتخاذ القرارات ورسم الخطط. بعدها استدعاني في مكتبه وقدم لي ورقة فيها مقترح لإعداد معجم مدرسي لطلاب التعليم العام، وطلب مني أن أرأس فريقا لإنجازه بالتعاون مع مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية المشرف العام على المشروع. هذا المشروع يتطلب الحديث عنه مجلدات.. اتصلت به قبل وفاته بأسبوع أخبره بالانتهاء من المعجم بعد العمل فيه لمدة ثلاثة عشر عاما، وقلت له جزاك الله وكل العاملين فيه عن أمتكم كل خير أبا أحمد، وذكرت له ما قاله الأستاذ الدكتور التونسي والمعجمي البارز محمد رشاد الحمزاوي عندما استضافته الجنادرية، والذي يعمل معنا كمستشار للمشروع ورئيس ورشة العمل للمشروع، قال: ليس محمد الرشيد ولا وزارة التربية والتعليم.. إن المملكة العربية السعودية تعد معجماً بطريقة لأول مرة يُعد بها معجم في تاريخ اللغة العربية. محمد الرشيد مدرسة في العمل والأخلاق والإخلاص ونشهد له بالخير.. كل ما ذكرته هنا قليل جداً من الجوانب المضيئة في شخصيته.. رحمه الله رحمة واسعة.