لو سُئلتُ عن أسوأ فيلم رعب شاهدته في حياتي، سأجيب سريعا: سعودي يسرق حليبا من صيدلية. إنه فيلم قصير جدا، لكنه سيّئ، سيّئ إلى أقصى درجة. هذا الفيلم صوره صيدلي مقيم بعد أن قبض على شاب سعودي سرق حليب أطفال من الصيدلية. لم يقدّم الصيدلي الفيلم إلى الشرطة أو ربّ عمله. بل رفعه على موقع اليوتيوب. عرضه أمام العالم بأسره. أعدم الأب الصغير على رؤوس الأشهاد بسبب حليب أعاده إلى الرف الذي أخذه منه بعد أن تلقى سيلا جارفا من الشتائم والتجريح. حُذف المقطع من اليوتيوب بعد إلحاح طويل، لكن مازال الجرح غائرا والأسئلة تنزف: كيف يسمح الصيدلي لنفسه أن يعاقب الأب نيابة عن الجهات الأمنية؟ ومن يعيد إلى الأب الصغير كرامته التي استبيحت أمام الآلاف الذين شاهدوا الفيلم؟ ومن يحمي الآباء اللاحقين من أفلام جديدة؟ إنني وإذ كنت أرجو أن تتم ملاحقة الصيدلي قانونيا إلا أنني أرجو أيضا أن نبحث معا عن حلول ناجعة لتوفير الحليب والغذاء الضروري للأسر المنكوبة بالفقر.
يجب أن نتفق أولا أن هذا الأب الصغير ليس الوحيد الذي لا يستطيع تأمين الحليب لطفله. هناك الآلاف الذين لا يستطيعون. نجدهم بعد الصلوات وفي مواقف السيارات وبجوار الإشارات.
الحليب ليس "فانلة سوبرمان" أو لعبة صغيرة نهديها لطفلنا. إنه ماؤه وغذاؤه. داؤه ودواؤه. فمن لا يجد له ولطفله طعاما أو شرابا يسدّ به رمقه أو يطفئ به ظمأه سيكون مجرما محتملا.
إنني أتساءل: لمَ لا نوفر لأصحاب الدخل المحدود، لمن رواتبهم دون الثلاثة آلاف ريال مثلا حليبا مجانيا لأطفالهم؟ ففي بريطانيا يصرف الحليب مجانا في الحضانات للأطفال دون الخامسة، أغنياء كانوا أو فقراء. وتصرف الوصفات الطبية مجانا للمرأة خلال حملها وبعد وضعها بعام كامل، بالإضافة إلى مستلزمات الطفل الرئيسية من حليب ودواء.
في أمريكا يستفيد من برنامج الكوبونات الغذائية (فود ستامبز) نحو 40 مليون أمريكي. فواحد من كل ثمانية أمريكيين يحصل على الكوبونات، التي تكبد خزينة الحكومة الفيدرالية نحو 59 مليار دولار أمريكي.
إن توافر المواد الغذائية الرئيسية للأسر المحتاجة، هو الخطوة الأولى نحو التنمية، فالحديث عن النمو والازدهار ترف إذا لم يقترن بعمل دؤوب لتوفير الاحتياجات الضرورية لذوي الدخل المحدود. فهم يشكلون نسبة كبيرة في النسيج الاجتماعي... من خلالهم يصعد المجتمع، ومن خلالهم يهبط. ألم يقل الإيطالي كايرولي: "الفاقة هي أم الجريمة"؟
لا أنسى قبل عامين عندما استوقفتني سيدة وهي تحمل رضيعها على كتفها وأنا في مستشفى خاص بالخبر. للوهلة الأولى أعتقدت أنها ستسألني عن عيادة معينة أو طبيب محدد، أو ربما تبحث عن دورة المياه أو المصلى، لكنها سألتني أن أشتري حليبا وحفائظ لابنها. أقسمت أنها لا تملك سوى عشرة ريالات والحليب قيمته 36 ريالا. توسلتني أن أجلب الأغراض من الصيدلية لأطمئن وتطمئن. عندما عدت قالت لي إنها اعتزلت التسول في الشارع بعد أن عرض عليها شاب أن يدفع لها مئتين لتركب معه. وصارت منذ ذلك الحين تجيء إلى المستشفى لعلها تجد محسنا يسد جوع ابنها ويحفظ شرفها. أشعر بألم شديد كلما تذكرتها وتذكرت وجه طفلها البريء.
إن راتب الضمان الاجتـماعي ضئيل ولا يفي احتياجات الأسرة، والحليب ليس إكسسوارا أو عطرا. إنه حاجة ماسة تقيم الأود. فلمَ لا نتحرك، وندعم، ونساهم لنوفر الحليب مجانا للأسر المحتاجة حتى لا يتكرر فيلم الرعب الرديء والسيّئ والمخجل؟