في الأسبوع الماضي فوجئ مرتادو أحد أشهر المطاعم العربية في شارع "إيدجوار رود" اللندني بتعيين "معلم فلافل" عربي يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي، ليبدأ عمله الوظيفي الجديد، ويحقق أحلامه في العاصمة البريطانية بعيدا عن ظلام "الربيع" العربي الذي تمر به بلاده.
بسبب ظلام "الربيع" العربي ستفقد أمتنا العربية خلال العقد القادم المزيد من أصالتها ومراتبها بين دول العالم، إلى جانب فقدانها لخيرة علمائها وأفضل خبرائها في كافة المجالات. ففي الآونة الأخيرة انتشرت في عواصم العالم إعلانات البحث عن الأطباء والمهندسين من اللاجئين العرب، الذين هاجروا من ديارهم إلى غير رجعة.
في تقرير "هجرة العمل" الصادر عن الجامعة العربية، أكدت الإحصائيات الرسمية أن 40% من العقول العربية تهاجر إلى فرنسا وألمانيا و30% إلى أميركا و23% إلى بريطانيا وإيطاليا والنمسا و10% إلى كندا. كما تُشير دراسات "هجرة العقول" الصادرة عن منظمة العمل الدولية، إلى أن خبراء الوطن العربي يسهمون بنحو 31% من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية، ويشكلون 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية المهاجرة.
هجرة عقولنا العربية يذكرنا أيضا بتراجع مكانة لغتنا العربية، وضعف أهميتها بين شعوب العالم. ففي قريتنا الكونية اليوم حوالي 6000 لغة مختلفة، منها 25 لغة يتجاوز عدد الناطقين بها 5700 مليون نسمة، و1800 لغة لا يتجاوز عدد الناطقين بكل منها 1000 شخص، والباقي ينحصر في العديد من اللغات المندثرة. كلغة حديثة نسبيا ومستخدمة رسميا من قبل 500 مليون نسمة فقط، تحتل اللغة الإنجليزية المرتبة الأولى انتشارا في أرجاء المعمورة، ليصل عدد مستخدميها في معاملاتهم اليومية إلى 2100 مليون نسمة، ولتصبح أكثر لغات التواصل الاجتماعي استخداما. أما اللغة الفرنسية، التي يتحدثها رسميا 223 مليون نسمة، فلقد فقدت الكثير من نفوذها خلال القرن الماضي لصالح اللغة الإنجليزية، وأصبحت في المرتبة الثانية عالميا من حيث الأهمية ليتم تداولها كلغة رسمية بين 1200 مليون نسمة في 34 دولة. وتأتي اللغة الإسبانية في المرتبة الثالثة لتصبح بمثابة لغة التواصل المشترك بين 960 مليون نسمة في 21 دولة، من ضمنها دول أميركا اللاتينية. أما اللغة العربية فلقد تراجعت للمركز الرابع كأقل لغات العالم انتشارا، تتبعها لغة الماندرين الصينية ثم الهندية والبرتغالية والروسية واليابانية.
تزامن هجرة العقول العربية مع تراجع مكانة اللغة العربية؛ سببه دخول معظم دول الضاد في "عصور الظلام"، وهو المصطلح الذي سبق وأن أطلق على فترة القرون الوسطى الأوروبية، التي امتدت لمدة 500 سنة عبر التاريخ. بسبب الانحطاط الفكري والجهالة الدينية والهمجية السياسية، انحدر مستوى العلم والفكر والأدب فى أوروبا إلى أدنى مراتبه، وانتشر التخلف والمرض والعبث والركود، فتغلبت أساليب الشعوذة على حكمة المنطق، وأصبح الدين لباسا للمنافقين، وازداد الفقراء فقرا والجاهلون جهلا، فهاجر خبراء أوروبا وعلماؤها بعيدا عن الحروب والصراعات الداخلية؛ سعيا وراء العدالة الاجتماعية والحرية الإنسانية.
في "عصور الظلام" كان الإنسان الأوروبي أحادي التفكير ومتعصب التدبير، يؤمن بالغيبيات، ويكره التطوير والعلم والابتكار، ليعتدي بسلاحه على كل من يخالف رأيه، ويحتقر بعقيدته كل من يؤمن بغير دينه. في تلك الحقبة الأوروبية أصدر رجال الدين فتواهم بتحريم استخدام اللغات المحلية، وربطوا الدين المسيحي باللغة اللاتينية فقط، فأصبح استخدام اللغات المحلية من المحرمات التي عدّت متحدثيها من المارقين الكفرة، والمعتدين على الدين المسيحي. وفي ذلك العصر أُقفلت دور العلم ومراكز الأبحاث والإبداع، وتراجعت أعداد الكتب والمؤلفات؛ لانشغال الأوروبيين في ممارسة الطقوس والخرافات والسحر والشعوذة، مما أدى إلى هجرة العقول الأوروبية إلى الدول الأخرى.
هنالك اليوم أكثر من 2 مليون خبير عربي، من حَمَلة الشهادات العليا والفنِّيين المَهَرة، الذين هاجروا وطنهم العربي؛ ليعملوا في الدول الأخرى مثل الأستاذ الدكتور "معلم الفلافل" العربي، لتفوق خسائرنا من جرّاء هجرة الأدمغة العربية 34 مليار دولار، فيما يقدّر الخبراء إجمالي الأضرار بأكثر من 200 مليار دولار. وهنالك اليوم أكثر من 6800 خبير و1300 عالم و900 مهندس ممن هاجروا من العراق في العام الماضي فقط؛ بسبب أوضاع الإرهاب التي تسود العراق. ولا شك أن العديد من الدول تشجع هجرة العقول العربية واستقطابها للعمل فيها، فالكونجرس الأميركي رفع حصة الإقامة للخبراء الأجانب في مجال التقنية من 90 ألفا في السنة إلى 150 ألف خبير، ثم إلى 210 آلاف. خلال العقود الثلاثة الماضية اتخذ حوالى 60% ممن درسوا في أميركا و50% ممن درسوا في فرنسا قرارهم بالبقاء في هذه الدول بدلا من العودة إلى بلادهم، مما حرم الوطن العربي من هؤلاء الخبراء المختصين في أهم العلوم الاستراتيجية، مثل الطب النووي والفيزياء الذرية والهندسة الإلكترونية والعلوم الوراثية وتقنيات النانو والجراحات الدقيقة وعلوم الليزر وتقنية الأنسجة وعلوم الفضاء.
دخول دول "الربيع" العربي في "عصور الظلام" و"قرون الانحطاط" يؤدى إلى تشجيع العلماء والخبراء والأدباء على الهجرة إلى دول الغير؛ لعدم توفر البيئة المناسبة في وطنهم لأبحاثهم العلمية وإبداعاتهم الفكرية، إضافة إلى تراجع فُرص العمل المُتاحة لتخصّصاتهم النوعية. وهذا ما يؤدي إلى استمرار نزيف هجرة العقول العربية وتراجع مراتب اللغة العربية.
اختيار المطعم اللندني للأستاذ الدكتور "مُعَلِم الفلافل" العربي، يؤكد على بداية "عصر الظلام" في دول "الربيع" العربي.