منذ صغري وأنا ألاحظ أن إحدى أصابع يد جدي مثنية، ولا يمكنه أن يعيدها إلى طبيعتها، رغم أن الفضول تملكني كثيراً لأعرف السبب الذي أدى لأن تكون بتلك الهيئة، إلا أنني لم أجرؤ على أن أسأله هذا السؤال حتى أخبرني والدي في أثناء نقاشنا حول "هيبة المعلم" عن السبب. قبل ذلك، وضعت الكثير من الاحتمالات حول الحدث الذي أدى لأن تكون إصبعه منحنية باستمرار إلا أن والدي أوضح أن السبب الحقيقي لم يكن أحدها، لذلك كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي أن أعلم أن معلمه هو من تسبب بذلك بعد أن جعله يضع كفه تحت أحد أذرعة الكرسي كعقوبة له على خطأ ارتكبه أثناء التسميع غيباً، ومن ثم ـ إمعاناً في العقاب ـ جلس معلمه على الكرسي حتى تهشمت العظام في إحدى أصابعه، ولعدم تجبيرها بالشكل السليم تحول الكسر إلى إعاقة دائمة. حرصت بعدها في أول لقاء جمعني بجدي "رحمه الله " على أن أسأله كثيراً عن التعليم في زمنه، فأخبرني عن الطرق والأساليب التي كان يستخدمها المعلمون في عقابهم، وكيف تحول عقاب معلمه له إلى علامة بارزة في جسده يحملها معه أينما حل وارتحل، وإجابة جاهزة لكل من سأله عن سبب انحناء إصبعه، ولأنه خدم في التعليم أكثر من أربعين عاماً، ذهب يسرد لي مقارنات وصورا عديدة بين هيبة المعلم في الماضي والحاضر، وبين هروبهم من الأزقة التي يمر منها معلموهم، وبين طلاب اليوم الذين يتلفون سيارات المعلمين تنكيلاً بهم، وبين صلاحيات العقوبة الكاملة التي كان الجميع يمنحها للمعلمين لتربية الطلاب، وبين تعاميم وزارة التربية والتعليم الحديثة والمتتالية التي تنبههم إلى عدم استخدام وسيلة الضرب كعقاب، ولو كان جدي مازال على قيد الحياة لسألته: هل كانت العلاقة بينكم وبين معلميكم علاقة "احترام" أم علاقة "خوف"؟

بطبيعة الحال قد تتباين الإجابات حول هذا السؤال لو وجهناه للمهتمين بالشأن التربوي وللطلاب وأولياء أمورهم، ولكن في اعتقادي أن هيبة المعلم التي يتحسر على ضياعها البعض لم يكن مصدرها الاحترام الذي يكنه الطلاب لمعلميهم بقدر الخوف الذي فسره الكثير بأنه احترام؛ فالخوف هو السبب الرئيس الذي جعل بعض الطلاب قديماً يهابون المعلم، وكانت أولى بذور شجرة الخوف الكبيرة هي توصية "لك اللحم ولنا العظم" التي يلقيها ولي أمر الطالب في أرضية المدرسة، ومن ثم تنهض تلك البذور كعقوبات جسدية بعد أن يسقيها بعض المعلمين بماء التسلط والضرب بدوافع في أحيان كثيرة بعيدة كل البعد عن الأسلوب التربوي القويم، فكان بعض المعلمين سابقاً يحرص على استغلال قوته وسلطته ضد طلابه، فنشأت علاقة متوترة بين الطرفين حتى أتت قرارات الوزارة التي كفت أيدي المعلمين عن أن يمدوها بالضرب تجاه طلابهم، فذهبوا يتحسرون على هيبتهم التي افتقدوها، متناسين أن الهيبة الحقيقية هي أن يحترمهم طلابهم لا أن يخافوهم.

لم يكن جدي ـ رحمه الله ـ بحاجة إلى إعاقة دائمة في جسده لكي يفرض معلمه هيبته عليه، بل كان في وسعه أن يزرع الحب والاحترام بدلاً من الخوف.

أثناء تصفحي لإحدى الروايات الصينية وقعت عيناي على أحد أجمل المشاهد التي تصور لنا مظاهر احترام المعلم. تقول بطلة الرواية زهرة الثلج: "توقفت في طريقي إلى غرفتي أمام باب غرفة العم "لو"، فطرقت الباب، وتركت وعاءَ من أجله، لقد كان عليَّ أن أفعل ذلك. ألا تدركون السبب؟ إنه لم يكن العضو الأكبر سناً والأكثر احتراماَ في العائلة وحسب، ولكنه كان معلم ابني أيضاً، وكانت الكتب التقليدية تخبرنا في العلاقات بين الناس أن العلاقة بين المعلم والتلميذ تأتي في المرتبة الثانية فقط بعد العلاقة بين الأب والابن".

خلال العقد الأخير من تاريخ وزارة التربية والتعليم في السعودية، ازداد النقاش حول قضية "هيبة المعلم"، وأعاد التربويون ضياعها إلى أسباب متعددة، ومن أهمها: غياب القانون الذي يحدد العلاقة بين المعلم والطالب، ولذلك تفاءلت كثيراً بخبر تعيين الأمير خالد الفيصل وزيراً للتربية والتعليم، كي تكون هناك قوانين جديدة تنظم علاقة المعلمين بطلابهم، والتي من شأنها أن تعزز مفهوم احترام الطالب للمعلم، فالأمير خالد سبق أن أنجز مشاريع كبرى تشهد بها له منطقة عسير حتى الآن، وقد شهدتُ منطقة مكة المكرمة ما قبل "خالد الفيصل" وما بعده، فأيقنت أن لوزارة التربية والتعليم تاريخاً جديداً يحمل في ثناياه عودة مشرفة لهيبة المعلم الحقيقية لا الترهيبية، وأتمنى أن نشهد وزارة التربية والتعليم وقد طبقت مقولة عمر رضي الله عنه التي قال فيها: "تعلموا العلم. وتعلموا للعلم السكينة والحلم. تواضعوا لمن تتعلمون منه، وتواضعوا لمن تعلمون، ولا تكونوا جبابرة فلا يقوم علمكم بجهلكم".