خلق الله الإنسان من مكونات ثلاثة.. جسد وعقل وروح، وجعل لكل منها تأثيراً على الآخر، فالصحة الشمولية تستوجب تحقيق التوازن بين هذه المكونات الثلاثة، وإهمال أي منها يؤثر سلباً على الآخرَين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولهذا فإن العلاج الصحيح يعامل الإنسان ويعالجه بشموليته (جسداً وروحاً وعقلاً) ولا يتعامل مع المرض فقط. وهذا المفهوم بنى عليه أجدادنا علم الطب قبل مئات السنين، فها هو ابن سينا الذي عرف باسم "الشيخ الرئيس" وسماه الغربيون بـ"أمير الأطباء" و"أبو الطب الحديث" يُفصِّلُ العلاج الشمولي في كتابه "القانون في الطب" الذي ظل مرجعاً رئيسياً يدرس في كليات الطب بأوروبا على مدى خمسمئة عام.

أما الذي حدث خلال القرن الماضي فهو الفصل بين هذه العناصر عند تطبيب المريض، فأصبح الطبيب يطبب ويعالج الجسد فقط، لكن مع أواخر الثمانينات وبداية التسعينات الميلادية بدأت الدراسات والأبحاث تثبت دور العقل والروح في تحقيق الشفاء والعلاج عند المريض، وتأثير كل مكون من مكونات الإنسان على الآخر.

والأمثلة عديدة والأبحاث كثيرة فيما يخص ذلك، فالعلم يثبت لنا أن الحالة النفسية تؤثر سلباً أو إيجاباً على الصحة الجسدية، فالضغوط النفسية والقلق يؤديان للإصابة بأمراض جسدية عديدة، نتيجة إفراز هرمونات مختلفة، أحدها الكورتيزول المسمى بـ(هرمون التوتر).

وهذا ما يؤكد عليه الدكتور شيلدون كون من جامعة كارنيجي مينن، أن التوتر والضغوط النفسية المزمنة تؤثر في فعالية هرمون الكورتيزول في التحكم في ردود الفعل الالتهابية، فتزداد الالتهابات في الجسم ككل وتظهر صور مختلفة من الأمراض من ضعف في المناعة وزيادة في الإصابة بالأمراض المعدية والأمراض القلبية. وفي دراسات جديدة منها دراسة من جامعة تيلبيرج في هولندا أوضحت أن القلق النفسي يؤدي إلى زيادة الذبحات الصدرية والجلطات الدماغية وقصور عضلة القلب بل والوفاة في المرضى المصابين بأمراض القلب.

وكما أن التوتر والقلق والضغوط النفسية لها آثار سلبية على الجسد، فإن مئات الدراسات تثبت أن الاستقرار النفسي والإيمان والروحانيات لها آثار إيجابية على جسد الإنسان وعقله من خفض نسبة أمراض الأوعية الدموية وضغط الدم وجلطات الدماغ والزهايمر وفقدان الذاكرة ونسبة الإصابة بالأمراض السرطانية.

في المقابل فإن كثيراً من الأمراض الجسدية لها تأثيرات سلبية على نفسية المريض وعقله، فنقص بعض الفيتامينات مثل فيتامين D3 يمكن أن يؤدي للإصابة بالاكتئاب والتوتر والقلق، وكذلك نقص المغنيزيوم ونقص هرمون الغدة الدرقية، بل إن النقص الحاد في فيتامين B12 يمكن أن يعطي أعراضاً مشابهة للأمراض العقلية مثل انفصام الشخصية، وإن 15% من المرضى المصابين بالأمراض القلبية و50% من مرضى السرطان المتقدم يعانون من الاكتئاب الحاد.

وأما العقل والدماغ فإن تأثيرهما على الجسد والروح أصبح حقيقة لا جدال فيها، بل إن تغذية الدماغ بالصور الإيجابية تؤدي إلى زيادة إفراز هرمون الدوبامين، وهو ما يسمى بهرمون السعادة، الذي يؤثر في نفسية الإنسان ويجعله أكثر سعادة ويؤثر على الجسد فيجعله أكثر نشاطا وحيوية، والعكس صحيح، فالأفكار السوداوية المتشائمة السلبية تؤدي إلى آثار مضادة، ولذلك فإن العلاج الصحيح يستوجب الأخذ بالمكونات الثلاثة في التشخيص والعلاج، مثال ذلك إذا أخذنا مرض الصداع أو الشقيقة، فإن التشخيص الصحيح الشامل لا بد أن يدرس الأسباب الجسدية والنفسية والاجتماعية والمشاكل العائلية والعوامل النفسية والبيئة المحيطة والتغذية وكمية السوائل التي يشربها الشخص في اليوم، وجودة النوم وطريقة الحياة بشكل عام، والعلاج كذلك لا بد أن يكون شمولياً.

وبما أن الله قد حبا الإنسان بالقدرة على شفاء نفسه، فإن أول مبادئ الأخذ بأسباب الشفاء، هو تحقيق التوازن بين الجسد والعقل والروح في حياتنا اليومية، وألا يطغى جانب على آخر. وهذا التوازن هو الذي يتوافق مع فطرة الإنسان التي خلقه الله عليها، وهذا هو نهج دين الوسطية.

أما الإسلام فقد أرسى معايير التوازن والاعتدال والوسطية في حياة المسلم، وحقق مبدأ التوازن بين الجوانب المادية والروحية والعقلية، بحيث يأخذ كل جانب حجمه المحدد ومساحته المحددة، فلا يطغى جانب على حساب الآخر، ففيما يتعلق بالموازنة بين مطالب الروح والجسد، قال سبحانه "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين". فنهى عز وجل أن يصرف الإنسان همه للدار الآخرة ناسياً نصيبه من الدنيا ومحرماً الطيبات التي أحلها الله، من طعام وشراب ومسكن وملبس وزواج وزينة وسائر المباحات، وأكد على هذا المعنى بقوله تعالى "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين".

وفي الحديث الشريف أنه "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

في هذا الحديث جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هذا التوازن الحياتي سنة من سننه على كل مسلم أن يتأسى بها، ولم يقر الزيادة في عبادات هي في ذاتها مشروعة من الأساس حتى لا تأخذ منحى الغلو والإفراط وتنحرف عن هدفها الأسمى في الارتقاء بالروح.

وتأكيدا لهذا التوازن بين الجسد والروح جعل الله سبحانه الأنبياء يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، "وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق"، حيث إن أهم صفات الدعوة الإسلامية هي الوسطية، المتوافقة مع الفطرة السليمة وتحقيق احتياجات الجسد والروح والعقل، بعيداً عن التفريط والإفراط، أو الغلو والتقصير، أو الجمود والتساهل، أو التحجر أو التسيب. يقول تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً"، "ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".. هذه الخصيصة التي هي الوسطية وهي من أبرز خصائص الإسلام، يُعبر عنها بأنها التوازن بين الأطراف المتقابلة أو المتضادة، يؤكدها في موطن آخر قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون".

وهذه قمة التوازن بين متطلبات الجسد والروح كمنهاج حياة عملي. ومما يؤكد قيم التوازن السلوكي في كتاب الله أيضا، قوله تعالى "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً"، وقوله "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً".

وإنها لأمانة عظيمة حملنا الله إياها أن نكون شهداء على الناس بهذه الوسطية.