كيف سنموت؟ من يعرف النهاية، إن عرفنا كيف سنموت فسنفقد المتعة في العيش، وهو ما لم يعرفه الروائي والشاعر والفنان التشكيلي والموسيقي السوداني مؤلف رواية "رحيل" محمد حسين بهنس الذي مات متجمدا من البرد في شوارع القاهرة بينما عرفه رفاقه ومعجبوه بعدما مات على طريقة الأرصفة الوحشية.

لم يرحل محمد حسين بأناقة كما فعل أينشتاين وهو على فراش الموت، إذ رفض أن يكمل حياته صناعيا قائلا: "أريد الرحيل وقتما أريد ذلك". استكمال الحياة اصطناعيا شيء لا طعم له. لقد قدمتُ نصيبي، آن أوان الرحيل. سأرحل بأناقة.

في عالمنا العربي، ليس بمستغرب أن يموت المثقف بدون أية أناقة، يموت من الجوع، أو من التشرد، أو يقضي بقية حياته مسجونا رهين ديونه الصغيرة، ليس بمستغرب أن يبيع كتبه على أحد الأرصفة ليشتري بثمنها خبزا. ببساطة لأن الكتاب ليس ثمينا في مجتمعاتنا، اللوحة الفنية ليست مطلبا ،الفكر ليس مهما. الكل لا ينظر إلى هذه المعطيات بكثير من الأهمية. وزارات ومؤسسات الثقافة في العالم العربي ليست إلا مكاتب يملؤها الخواء المعرفي.. واجهات شكلية تخدم ذاتها ومركزيتها ليس أكثر. لم نسمع يوما أن أية مؤسسة ثقافية ساندت مثقفا أو فنانا.

نعم، العالم ليس عقلاً.. ليس إلا فما شرها وكبيرا يلتهم الطعام وحسب. ويجب أن يكون لسان حال أي مثقف أو فنان كرس حياته وروحه وفكره لأجل رقي العقل الإنساني: لماذا أحيا وما الشيء الذي يبرر بقائي، وما الذي يستحق أن أفرح به أو يساوي فرحي، بماذا أبرر بقائي أمام نفسي تبريراً عقلياً أو أخلاقياً كإنسان؟

محمد حسين مثله مثل كل الروائيين الحقيقيين الذين لم يعرفوا الطريق إلى منصات التكريم والتصفيق والمنح الكثيرة التي يحصل عليها المزيفون في عالم الفن والثقافة. لقد عاش حياته غريباً عن العالم متمرداً على عدم الفهم.. ساعياً إلى الكمال والمساواة، ولكنه عاجز عن تفسير العلاقة بينه وبين صمت الكون القاتل.. عاجز عن تخيل أن قدره أنه سينتهي بالموت متجمدا بينما لم يبح له بتفسير الموت ومعنى الحياة وما إذا كانت الحياة تستحق أن تعاش أم لا؟

أن يموت مثل هذا الرجل على أرصفة مدينة كالقاهرة التي كانت يوما منارة للمثقفين، ليس أيضا بمستغرب، فقد ماتت لربما على ذات الرصيف مي زيادة. ليس الموت مخيفا اليوم، وأظن حال وصوت كل فنان ومثقف عربي هو لن أهلع قط من الموت.

وإن كان الحديث عنه قد صار أكثر ابتذالاً من الموتِ نفسه وإثارةً للغثيان.

"إن خوفي كله من الموتِ في أرضٍ.. يكون فيها أجرُ حفارِ القبور أغلى من حرية الإنسان.. ومن الإنسان".