إنه العيد الخامس الذي يمر على السوريين، ولا تزال الأزمة تستعر في مختلف أنحاء البلاد، وقد أتت على الأخضر واليابس. لم تترك مكانا للفرح كي يستريح في زوايا بيوتهم التي نالت نصيبها من الدمار. ساحات الأطفال التي اعتادت أن تكون ملعباً لهم وتتسع لمراجيحهم وألعابهم لم تعد موجودة على خارطة المدن ولا القرى، فالحرب دكتها وأصبحت مرتعا للغربان.
حتى البهجة رحلت من وجوه الأطفال، وسكنت محلها علامات القهر والفقر. ومع ذلك فهم متفائلون، يرقصون على جراحهم، ويخفون آلامهم، يريدون أن يبعثوا برسالة إلى العالم أنهم لا يزالون ينبضون بالحياة. السواد والحزن اللذان يغلفان قلوب غالبيتهم، لن ينزعا منهم بصيص الأمل الذي يصبون إليه. وها هو العيد وها هم السوريون، كل يستقبله على طريقته الخاصة.
موشح بالسواد
"فوق الموتة عصّة قبر"، عبارة يلهج بها السوريون كثيرا كلما خنقتهم الأزمة، وهي تعبر عن ضيق الحال التي يمرون بها، وبرغم كل الويلات التي تنتابهم يأتي غول الغلاء ليلتهم ما تبقى من أحلامهم، هكذا يصف أبو حسان حال الناس في هذه الأوقات. ويقول: لم يعد بوسع غالبيتنا أن يشتروا ما يتيسر لهم من ملبس أو مأكل يليق بالقادم الموشح بالحزن، فالغلاء يبلغ أوجه، وبالكاد نسد حاجياتنا اليومية.. الجشع يزيد من حزننا وكآبتنا، ولا صوت يعلو فوق صوت الغلاء الذي بخر كل أحلامنا، وحرم أطفالنا من شراء ما يمكن أن ينسيهم معاناتهم.
سيدة لم تتجاوز العقد الثالث من العمر، التقيتها صدفة في إحدى المدارس لتسجل ابنها في الصف الأول. بالكاد كانت تسير بعكازين معدنيين، وترتدي عباءة سوداء وتغطي رأسها بشال أسود. كان الحزن بادياً على محياها، كفكفت دمعتها وهي ترد على مديرة المدرسة التي طلبت منها هوية الوالد لتسجل ابنها، فقالت إنه توفي. سألتُها كيف توفي، فقالت: قنصاً بالرصاص، ترك لي طفلين وكما تراني أصبت أنا أيضا بشظية من قذيفة طائشة. وماذا ستقولين للطفلين وهما ينتظران العيد؟ أجابت: صدقني لا أعرف، فالطفلان بعمر الخامسة والسادسة، يلهوان ومع ذلك يدركان أنهما فقدا والدهما، نزحنا من الحي، ونحن هنا نستأجر بيتا متواضعا، لذلك لن نبحث كثيرا عن العيد، بعد أن فقدنا الغوالي.
هذه السيدة ليست الحالة الوحيدة، ففي معظم بيوت السوريين هناك سواد يغطيهم، هناك من فقد ابنا أو والدا أو بنتا أو طفلا، ومن لم يزره الموت، زارته الإصابات والجروح التي يصعب أن تندمل، ومن نجا من هذه وتلك، ابتلي بضياع بيته أو سيارته أو ممتلكاته. هكذا يصف غسان الحالة العامة للناس في عموم سورية التي تئن من الوجع، فكيف لنا أن نفرح بالعيد؟
نازحون حتى في بيوتهم
استوقفنا قيصر. ج (55 عاما) ليصف لنا كيف يستقبل الناس العيد، فهو مهتم بحكم عمله بالناس وأحوالهم، ولديه اطلاع على ما يدور هنا وهناك كونه يعمل مع عدد من الجمعيات الخيرية، فقال: ليس لدى غالبية الناس متسعاً للعيد، كونهم غير مستقرين في الأماكن التي يتواجدون فيها، غالبية الناس نازحون من بيوتهم حتى في المدينة الواحدة هناك نزوح من حي إلى آخر، ومن يقطن في بيته فهو قلق وقد يغادره في أي لحظة. تلك هي حال الناس، تركوا كل شيء وراءهم وغادروا، كيف لهم أن يستقبلوا العيد، وهم في حال يرثى لها.
أحياء لكنهم لا يفرحون
من داخل بعض المدن المنكوبة بعيدا عن العاصمة، حاولنا استقراء حالة الناس وهم يستقبلون العيد الخامس وهم في الأزمة. وصف لنا غيث من أبناء مدينة حمص، تلك الحالة بقوله: في الحقيقة لن يكون عيدا سوى بالاسم، نحن أحياء ولكننا لن نفرح، لأننا مفجوعون بفقدان أشياء كثيرة من حياتنا، أكثر من عامين ونصف العام ونحن نعيش في دوامة لا نعرف متى ستتوقف، نحن ضحايا حرب ليس لنا فيها ناقة ولا جمل. إنهم يتصارعون فوق أجسادنا ونحن من يدفع الثمن.
أما عماد من أبناء مدينة دير الزور، فأردف قائلا: مدينتنا محاصرة منذ أكثر من عام، لا يوجد فيها سوى حي أو اثنين يصلحان للسكن ويضمان كل أبناء المدينة. كيف لأحدهم أن يفرح بالعيد وجاره محزون، أو مفجوع، أو يعرف أن بيته مهدوم، لسنا سوى أحياء نقتات كي لا نموت. وحتى ساحات العيد المعتادة في المدينة دمرتها آلة الحرب، المراجيح وألعاب الأطفال دُمرت أيضا، حتى الطفل لن يقبل أن يلعب وهو يعرف أنه محروم من أبيه أو أمه وأخيه.
توقع الأسوأ
وحاول عبداللطيف من أهالي درعا أن يتهرب من الإجابة بذكاء، لكن أمام إلحاحي قال: لم نستعد للعيد بصراحة، لأننا نتوقع الأسوأ في كل لحظة، قد تغتال فرحةَ الأطفال رصاصةٌ طائشة، وقد تحل بينهم قذيفة تخطفهم وفرحهم، لن نغامر بترك الأولاد يفرحون في الساحات كما كانوا سابقا، ومع ذلك نحاول أن نبعدهم عن جو الحزن ولو قليلا ونشتري لهم بعض الحلوى واللباس الجديد، فهؤلاء لا ذنب لهم.
أم طريف من مدينة حماة، قالت: مهما حاولنا التهرب من المآسي فهي تواجهنا، ومع ذلك نحاول التأقلم مع هذا الوضع لنشعر أننا ما زلنا أحياء، الحياة لن تتوقف، وعلينا أن نخرج من الحالة ولو موقتا، وبصراحة اشتريت لأطفالي بعض الملابس، وسأصنع لهم بعض الحلوى بالمنزل، وسأحاول أن أخرج بهم لزيارة أقاربهم وإلى الحديقة إن كان الجو هادئا بعض الشيء، وهذا أقصى ما يمكن أن نفعله لمواجهة أعباء الأزمة.
كلهم في الهم واحد
لم يقتصر توجهنا على المدن المنكوبة، فحاولنا أن نلتقي بعض العائلات التي تسكن في مدن هادئة نسبياً، ومن هؤلاء صادفنا أم سومر من مدينة طرطوس التي قالت: فقدنا الكثير من أبنائنا في هذه الأزمة التي ألمت بالبلاد، لن يكون العيد قريبا منا، مع أن مدينتنا هادئة تماما ولا يعكر مزاج أهلها شيء، ونحن نستضيف عائلات كثيرة من أبناء المناطق المنكوبة، ونتمنى أن يعيشوا فرحة العيد، ولكنني لا أعتقد أن أحدا بإمكانه أن يفرح كثيرا ويعيش طقوس العيد مثلما كنا في السابق، ففي كل بيت قصة مؤلمة، والحرب لم تستثن أحدا.
ومن مدينة اللاذقية حاورنا علاء الذي قال: هناك من حاول أن يفقدنا بهجة العيد، وفقدنا نعمة الفرح أيضا، العيد بات من ذكرياتنا، ولنا أحبة قضوا في الأزمة وفقدنا أعزاء كثيرين، الحزن يعم الجميع، ومع ذلك لن نحاول أن نستسلم لليأس، لا بد من أن نقف على أرجلنا ونترك لأطفالنا مساحة للفرح، وهامشا يتنفسون منه لحظات السعادة بعد أن أنهكتنا الحرب، وطبولها.
شام البهية
الازدحام وكثرة الحركة في شارع الحمراء والصالحية والشعلان في العاصمة، يجعل دمشق بهية كأنها لم تمسسها نار الحرب، ولم تعلم بما يدور حولها، الازدحام على أوجه في هذه الأماكن التجارية المختصة ببيع الملابس والأحذية لكل الأعمار من الجنسين. ومع انتصاف شهر رمضان دبت الحياة هنا، المحلات تبقى مفتوحة إلى ما بعد منتصف الليل، حركة الناس تجعلك تحس كأنك في بلد ثان غير سورية، ليس الدمشقيون وحدهم من يرتاد هذه الأماكن، وبمجرد أن تدقق في الوجوه واللهجات، تدرك أن سورية تجتمع هنا.
وفي أحد محلات الأحذية للأطفال في نهاية شارع الصالحية لن تستطيع الدخول لتشتري قبل ساعة بسبب كثرة الناس وإقبالهم على الشراء، وفي إحدى محلات الحمراء الذي أعلن عن تنزيلات تشعر أن المحل يكاد يغص برواده، حتى المقاهي لا مكان فيها لوافد جديد من الجنسين، تلك صورة نقيضة تماما لحال بعض المدن والمحافظات، وحتى ما بين حي وآخر.
فاقد الفرح لا يعطيه
كان للأطفال نصيب من جولتنا التي استوقفنا فيها عددا منهم لمعرفة أحوالهم في العيد، وكيف سيفرحون به. أجابنا الطفل زين (12 سنة) قائلا: سرقوا منا العيد، كيف لنا أن نُعيّد دون ألعابنا ومراجيحنا، يقولون لنا إن العيد للأطفال، لكن الكبار يحرموننا من فرحنا. وبعفوية بالغة أجاب تيم (15 سنة) قائلا: سنفرح ولو بالقدر الذي نستطيع، سنركض ونقفز بالهواء لن نجعل الحياة تتوقف، لنقول للعالم كله إننا أحياء، لن نموت بهذه السهولة، والعيد سيكون ملعبنا، سأقول لأبي الذي غادر ولم يعد منذ سنتين، إنني أنتظرك لأقبل يديك، وأقول لك كل عام وأنت بخير.
شَهْد ذات السنوات العشر، لم تترك لنا فرصة الانتظار وقالت: سألبس ثيابي القديمة وألعب مع رفيقاتي في حارتنا، أشعر بالحزن في وجه أمي وإخوتي، ولكن لا أستطيع أن أفعل شيئا، اشتروا لي لعبة وحذاء، وسيأخذني أخي الأكبر إلى المرجوحة، وإن شاء الله ما يكون في "طق حتى ما نخاف".
بائعو الحلويات
كانت العادة أن يبدأ أصحاب محلات بيع الحلويات والمعجنات، بتجهيز كميات إضافية للعيد، لكن أبو نوري صاحب أحد هذه المحلات قال: هذا العيد والذي قبله صنعنا أقل مما كنا نبيعه، وهذا العيد أضعف بكثير كون المواد الأولية غالية وارتفعت الأسعار ولم يعد للناس رغبة في الشراء، وندعو الله بالفرج القريب.
في باب سريجة توقفنا أمام أحد هذه المحال وسألنا صاحبه عن الإقبال على حلوى العيد، فقال هيهات لم يعد الأمر كما كان، الناس مشغولة بما هو أهم، ارتفعت الأسعار إلى الضعف والقدرة الشرائية ضعيفة لدى الناس. أبو صالح الميداني صاحب محل حلويات عربية، قال عن استعداد الناس للعيد: لم تعد هناك طقوس خاصة، كان شارع الميدان ليله مثل نهاره قبل العيد بفترة طويلة، واليوم لم نر إلا القلة القليلة ولا إقبال على الشراء، كما أننا نفتقد بعض المواد الأولية وبعضها غال جدا، وهذا ينعكس على السعر، وربما بعض الناس تعمل الحلويات في المنزل لأنها أرخص قليلا.
إنه العيد
حتى لو لم يستقبله أحد أتى العيد على سورية، ولم توقفه كل الحواجز، ولم تخفه أصوات المدافع، ولم ترهبه برك الدم المسكوب في كل مكان، ولم ينصت لمن يريد للحزن أن يخيم على كل الوجوه. أتى العيد، يلقي التحية على أبناء سورية الذين لم يكونوا بزيهم المعتاد، لكنه احتضنهم وهم يبتسمون له. أتى العيد حتى لو لم تعمل له السوريات البيتفور أو العجوة بالتمر أو المعمول، أتى العيد وهو يوزع فرحه على القلوب التي أتعبها الحزن وأنهكها الانتظار، حاملا للسوريين معه باقات الأمل، وأطلق حمائم المحبة والسلام، لعلها تطفئ نار الحرب التي أدمت القلوب.
تعال أيها العيد.. صافح الأطفال هنا فإنهم منتظرون، وها هم يصنعون مراجيحهم بأنفسهم على أغصان الأشجار المحروقة كي تورق من جديد وهي تستمتع بهم وهم يلعبون.