قيل لي عام 1993: هو يقرأ القرآن أفضل منَّا، سمعته يتكلم مع أحد الطلبة فقلت لزميلي: هو شيخ فاضل لكن لسانه يلكن لكنة العجم فكيف تقول يقرأ القرآن أفضل منَّا؟، يرد عليَّ صديقي خريج المعهد العلمي: ومن أنت حتى تحكم على قراءته؟ طبعا شاءت ظروفي البائسة في الدراسة أن أكون خريج الثانوية العامة "القسم العلمي" وملتحقا بكلية الشريعة بجامعة الإمام، وطلبة المعهد العلمي أكثر "مدرسانية" وخضوعا لمشيخة الكتاتيب مني... المهم قرأت عند هذا الشيخ الفاضل "غير العربي" بعضا من سورة آل عمران، فكان يخطئني ويطلب مني الإعادة، فأعيد، فيكرر عليّ طلب أن أعيد، فتوقفت عن الإعادة وطلبت منه أن يخبرني بالفرق بين قراءتي وما يراه من صواب، بصوته هو، فغضب مني؛ لأني أردت أن أجعل أذني هي الحكم بيني وبينه، خصوصا أنهم قالوا لي: إنه لا يجيز أحدا في قراءة الفاتحة إلا بعد قراءتها عنده لمدة أسبوع!.

مضت السنون بعد أن درسنا في أصول الفقه مسألة اللغة هل هي اصطلاحية أم توقيفية؟ وما زال في نفسي شيء من هذه الصرامة لهذا الشيخ "غير العربي" ـ المفتعلة في رأيي ـ لأجد في مقدمة ابن خلدون كلاما عن تطور اللغة العربية، وأنها تحولت إلى صناعة وحرفة و"أكل عيش" عبر علوم النحو والصرف، وهذا ليس عيبا في حد ذاته، وقد يكون من مظاهر الحضارة في بعض نواحيه، ثم بيَّن ابن خلدون كيف كانوا يفرقون بين العرب الأقحاح من مضر وبين العجم المستعربين عندما يقرؤون الفاتحة، إذ إن المضري يرقق القاف ترقيقا ظاهرا في "اهدنا الصراط المستقيم"، فتذكرت قراءة الكهول في أغلب مناطق الجزيرة العربية.

عندها عدت بذاكرتي لأستعيد المسلسلات العربية التراثية، وبدأت أسأل نفسي بهدوء: هل فعلا كانت العرب قبل ألف وأربعمئة سنة تقول كما نسمع في التلفاز من مسلسلات تحكي عن لسان العرب القدماء كقولهم: "أين أنت يا حنظلة؟ لقد كنت عند أبي البراء، وصادفت في الطريق سعداً!!... إلخ". لم يستوعب "دماغي" إمكانية الحديث اليومي الواقعي والتلقائي لقدمائنا العرب أن يكون بهذا الشقشقة اللغوية، وبكل هدوء، رجعت لحركات التجويد في القرآن الكريم، فوجدت أن الهدف الأول والأساسي للتجويد، هو الحفاظ على القرآن الكريم كحالة شفاهية محكية نقية كما هي، ثم ثانيا تجميل التلاوة بفنون المقامات الصوتية.

ما يعنينا هنا هو الحالة الشفاهية التي تحافظ على براءة النص المسموع كما هو قبل ألف وأربعمائة سنة، وعندها كان واضحا أن الإنسان في محكيّه اليومي يمارس الإخفاء والإدغام بتلقائية، وعند التأمل أكثر وأكثر في تعدد القراءات، نكتشف كيف أن القراءات العشر للقرآن جاءت لتقاطع وتنوع اللهجات العربية، واستقامة كل لسان كما في قراءة حفص الدوري، التي تتناسب واللهجة الحضرمية، وهكذا.

ما أوردته أعلاه نتيجة ما أثاره أستاذنا إبراهيم طالع الألمعي عبر حلقاته في جريدة الشرق، وقد كان يحمله في قلبه منذ سنوات قديمة متأملا ودارسا وفقيها لغويا، وما يثير الانتباه أن الترافعات والردود التعقيبية عن اللغة العربية يجب أن تبقى في حدود الموضوعية دون الحاجة إلى تبجيلية تفقدنا معنى أن اللغة العربية كائن حي ـ باستثناء ما طرحه الدكتور حمزة المزيني كإضافة عبر علم الألسنيات الحديث ـ فعندنا من المفردات الحالية ما يجعل أفصح العرب قديما لا يدرك من صحيفتنا هذه شيئا، فالمفردات ذات المعنى التجريدي، اتسعت باتساع الحضارة الإنسانية، ولهذا فـ"البرادايم" يختلف والاشتقاق يتمدد حينا في مفردة ويتقلص ويكاد ينقرض في أخرى، وأمثال إبراهيم طالع ممن عاش أستاذا للغة العربية بين أبناء الجزيرة العربية وأبناء المغرب العربي، يدرك هذه التمددات أكثر من غيره، خصوصا أن حسه اللغوي يستنهض الفوارق الدقيقة بعين الملاحظ النقي بفطرة لسانه التي قد لا يلحظها "المدرساني" التقليدي الذي دَرَسَته ودَرَّسته الأكاديمية باتجاه واحد.

بقي هناك إشارة لتساؤل يثيرنا أكثر وأكثر، فالشيخ علي الطنطاوي طرح قديما تساؤلا مُرَّاً عن أن النحو ليس من مهماته تقويم اللسان بقدر ما هو يخرج محللي مختبر للجملة العربية، ولكن السؤال الأبعد والأعمق، أليس تحول اللسان إلى حالة مكتوبة فرض تقاليد من الرسمية والأرستقراطية اللغوية تطرد ما عداها، ولهذا نلاحظ أنه حتى على المستوى الفكري، صنع الفكر رسميته المستبطنة، لنجد كتبا تتكلم عن حرية التعبير، والديموقراطية، وحقوق الإنسان، بل والأشد مرارة من هذا أن تجد كتبا تمارس النقد الثقافي بطريقة أرستقراطية استعراضية، تكرس السائد أكثر مما تنفيه، فهي تمارس تقريرا له وتعريه، لكن بطريقة تؤكده وترسخه في الوجدان، لتنتهي من قراءة الكتاب، وأنت تشعر برضا يشبه رضا الدراويش عن أنفسهم بعد خروجهم من دورة عن تطوير الذات، وليعود كل درويش إلى طبعه القديم ولكن بمرويات أكثر استغراقا في تبرير وضعه البائس، إنه نقد ثقافي لا يتكئ على جذر مادي يستطيع أن يمشي على قدمين، بقدر اتكائه على تهويمات المفردة، ولعبة المرايا اللغوية، ما بين نسق ونسق مضمر، إنها مسرحية عادل إمام "الزعيم"، تحت نظر الزعيم، للتنفيس الثقافي عن الاحتقان ضد الزعيم.

إشكالنا مع اللغة العربية أنها "اُستدمجت" ضمن نطاق المقدس الإسلامي، رغم أن أكثر من خدمها في القرون الأخيرة هم النصارى العرب.

وختاما؛ يجب ألا ننسى أن لغتنا بالنسبة للغات العالم كائن عادي متواضع، له من الصحة والمرض ما في لغات الدنيا من صحة ومرض، إنها كائن يحاول أن يكبر لأمٍ ساميَّة، يكبر حينا كالورم إن لم يكن لناطقيها دور حقيقي في إنتاج الحضارة، وحينا صحة وعافية وثقة بالنفس، إن أيدها واقع ناطقيها لا خيالهم وأمانيهم، ولها أخت عجوز تسمى العبرية، ولها بنت عم يقال لها الأمهرية. إن تاريخ اللغة قد يفاجئنا كما في كتاب فراس السواح "مغامرة العقل الأولى"، عندما يحكي عن اللغة الأوغاريتية فيذكر من الأسماء القديمة في آثار بلاد الرافدين اسم "بنت النور" ويقصد بها بنت القمر فيقال لها آنذاك "بدرية" هل عرفتم "بدرية"؟ إنه اسم قديم لبعض نساء الجزيرة العربية، وما زال موجودا بيننا، هل عرفنا جذوره الأوغاريتية القديمة، فكيف لو تساءلنا أكثر وحفرنا أكثر وأكثر، لنعرف كم أن في سيمياء اللغة آيات للمتوسمين، وبانتظار ما يتحفنا به أستاذنا إبراهيم طالع من مزيد ومزيد على شكل كتاب مطبوع، دون احتقار لعرق أو لون فلا عنصرية في اللغة ولا شعوبية، ولكنها كما أشار: موضوعية تقصي وتدني، تبعد وتقرب... ونحن معه، ومنه نتعلم دروس المتوسمين.