هي مكابدة وجدانية حارقة، وفيض عاطفي صاخب، يستعصي على الفهم ويلتبس على التفسير المنطقي والمدلول النفسي، حين تعمد وسائل الإعلام لتجريد وتغييب أسماء الشعراء وكأنهم كائنات وهمية، وأقنعة مصطنعة عبر مفارقات ضدية عجيبة، فلو أصغيت أو شاهدت أي نموذج جمالي وحمولات أخاذة من الشعر المشع الذي يفتق الأوجاع والجروح في شرايين الكلمات، أو يشعل الأمل ويحرض على الحياة في صيغة تعبيرية تغمرها النضارة والرشاقة والمناجات العذبة، فلن تظفر بمعرفة قائل ذلك الامتلاء الحسي، والاستغراق اللحظي الطافح، والرهافة الشعرية المتسمة بالطاقة التعبيرية والتجليات الطرية المنبعثة داخل ذلك المنطوق، وهذا ما لمسته وأنا أستمع إلى ذلك الانفعال الحميم والبوح الرقراق ينسرب من خلال صوت الموسيقار محمد عبدالوهاب وهو يقول: كلما وجهت عيني نحو لماح المحيا.. لم أجد في الأفق نجماً واحداً يرنو إليّا، ويواصل ذلك النص استنفار المخيلة والشحن الساخن، والراكض في شغاف الروح واستكناه التصورات البصرية والفيض المباغت: عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر.. اسألوا الليل عن نجمي متى نجمي يظهر؟ لم أكن أعرف قائله والذي استلب أصحاب وجوقة "الميديا" حقه المشروع وسعوا لتضليل وخداع المتلقي، وكأن النص مقتبس من حفريات مجهولة أو جاء من حنجرة محموم يهذي على قارعة الطريق، وبعد البحث عن ذلك النص وقائله والذي كان مجهولاً عندي وقد لا يكون مجهولاً عند الآخرين، إنه الشاعر محمود أبو الوفا صاحب ديوان "أنفاس محترقة " المتوفى عام 1979، الذي غلب على شعره الحزن والألم والمعاناة والشكوى المريرة، وبخاصة بعد أن بُترت ساقه مما جعل أحمد شوقي يقول له: البلبل الغرد الذي هز الربا.. وشجى الغصون وحرك الأوراقا.. سباق غايات البيان جرى بلا ساق.. فكيف إذا استرد الساقا.. في القيد ممتنع الخطا وخياله.. يطوي البلاد وينشد الآفاقا.. يقول أحمد حافظ: "يكثر أبو الوفا من الالتفات في شعره إلى العلة التي ابتلي بها، وكان لها تأثير كبير على نفسيته القلقة المعذبة، لأنها حدّت من انطلاقته ونشدان فرصته المتاحة في الحياة، والسعي في مناكب الأرض". ويقول أبو الوفا مخاطباً حافظ إبراهيم: يا صاحب "البؤساء" جاءك شاعر.. يشكو من الزمن اللئيم العاتي.. لم يكفه أني على عكازة.. أمشي فحط الصخر في طرقاتي.. ثم انثنى يزجي عليّ مصائباً.. سحباً كقطعان الدجى جهمات.. فغدوت في الدنيا ولا أدري أمن.. أحيائها أنا أم من الأموات؟

وأخيراً: هل يدرك دهاقنة الإعلام فداحة ما يفعلونه من قمع ومصادرة وهتك لأبسط حقوق المبدعين، والاستلاب غير المشروع ولا المبرر لممتلكاتهم الوجدانية؟