تذكرت بألم وحزن بالغيين، وأنا أشاهد أحداث صنعاء الدامية الأخيرة، إجابة شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني ـ رحمه الله ـ حينما سُئل عن صنعاء بقوله: "صنعاء مثل وجهي"، وكان يعرف دمامة وجهه المجدور.
لا يختلف اثنان على ضبابية وتعقيد المشهد اليمني الراهن، وقسوة واقعه وقتامته، فالعملية الإرهابية الأخيرة التي حدثت في صنعاء، كانت معقدة بنفس القدر الذي عليه الوضع اليمني، إذ تتضارب الاحتمالات على قدر تعددها، في محاولة تحديد الفاعلين والكامنين خلف هذه العملية الإرهابية الحقيرة، ومن الواضح ـ لي على الأقل ـ أن تنفيذ هذه العملية بهذه الوقاحة، وفي هذا التوقيت الذي تحاول فيه أطراف ما رفع معدل الاستياء والتذمر من الجارة الكبرى المملكة العربية السعودية، وبهذا التشكيل المكون من أفراد ينتمون فعليا إلى المملكة ـ كما جاء في تقرير الميديا الفيديوي المصور الذي بثته القناة اليمنية الرسمية ـ له مآربه التي من أهمها الدفع باتجاه العداء والكراهية للمجتمع السعودي، ولكل ما هو سعودي، ووضح ذلك من خلال القتل والعربدة الهمجيين، اللذين لم يفرقا بين رجل أو امرأة، شاب أو كهل، موظف أو مريض! وهذه خطة غبية لا يمكن أن تمر على الحكماء على جانبي البلدين الشقيقين، وخطة قديمة غبية تحاكي خطة تفجير مركز التجارة العالمي في الـ"11" من سبتمبر في نيويورك، التي كان عدد أفراد السعوديين فيها "15" فردا، في محاولة لجر القوات الأميركية لحرب ميدانها أرض المملكة، وهو ما صرح به قائدهم أسامة بن لادن مرة بقولة: "إنهم يريدون استدراج الأسد إلى ميدان المعركة في الشرق الأوسط"، وكان يقصد السعودية تحديدا؛ لعلمه أن جميع المسلمين سيهبون لقتال أميركا وقتها، وهو نفس الأسلوب الذي نُفذت به هذه الجريمة، لكن الأدلة الدامغة على تورط المذكورين في التقرير المصور لم تثبت إلى ساعة كتابة هذه المقالة، وقد يكون تنظيم القاعدة رأى أن الفرصة سانحة للسيطرة على اليمن، وتحويلها إلى دولة طالبان عربية، إلا أن تراجع قوة القاعدة إثر الاغتيالات المتوالية لكثير من قياداتها البارزة في اليمن، وهجرة كثير من أفرادها صوب الشام لا يقلل من احتمال ضلوعها في الكارثة لتشابه طريقة تنفيذها، ويدعم ذلك الأسماء التي أعلنها تقرير القناة الرسمية بعد الحادثة، مما يفتح الباب على مصراعيه للكثير من الفرضيات الأخرى، لتُلقي بظلال الشك على كل أطراف معادلة الصراع السياسي منها والديني في اليمن، كتلك التي تتحدث عن محاولة انقلاب على النظام الحالي باغتيال الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، والسيطرة على وزارة الدفاع ومبنى الإذاعة والتلفزيون، وهو ما اتهم به الحوثيون في بعض الشارع اليمني، خاصة بعد تصاعد سيطرتهم على مفاصل مهمة في بعض مؤسسات الدولة اليمنية، واغتيال صوتهم القوي في مجلس النواب الدكتور عبدالكريم جدبان، الذي يُعد أحد أهم رموزهم السياسية، يرشح احتمال الانتقام لاغتيال جدبان بعد أن شعروا بقوة شوكتهم وإمكانية قدرتهم على القفز إلى مقعد الدولة الأول من خلال هذه العملية، فلهم أطماعهم الكبيرة التي لا تخفى على أحد، خاصة وأنهم يحظون بدعم إيران اللوجستي اللامحدود سياسيا وتسليحا عسكريا نوعيا في السنوات الأخيرة، وهم ليسوا بعيدين عن احتمال تورطهم في الأمر وتبنيه.
وعلى جانب آخر ليس ببعيد يبرز احتمال تورط حزب الإصلاح بقواه القبلية وأذرعه العسكرية المختلفة، والخوف من احتمال تحجيمه كقوة مسيطرة كما كان في السابق، وإضعاف قبضة قيادته على كثير من مؤسسات الحكومة، وهو ما ليس سهلا قبوله عطفا على ما ستؤول إليه نتائج مؤتمر الحوار الوطني، البعبع الذي يخشاه الجميع.
فيما يحضر حزب المؤتمر الشعبي العام الذي كان يحكم قبل الثورة، كأحد أهم أطراف اللعبة، خاصة بعد إجبار الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح على التنازل عن السلطة؛ تنفيذا لبنود الاتفاقية الخليجية التي قبلت بها كل الأطراف المتنازعة في اليمن، وسلسلة الإقالات التي طالت كبار رجالاته العسكريين من سيطرتهم على الجيش والحرس الجمهوري وغيرهما، مما خلف شعورا بالإهانة لدى تلك القيادات.
كل ذلك لا يُقلل من بشاعة المحرقة، بل يعني أن الفاعل كان سيحكم اليمن على طريقته الإجرامية فيما لو سارت الأمور كما يجب ونجح المخطط بالكامل. وعلى كلٍّ، فإن الطرف الذي قام بهذه المذبحة المخزية، قد نسف كل أمل للتعاطف مع قضاياه مهما كانت قوتها أو عدالتها، وواقع الحال يقول إنهم أبعد ما يكونون عن أبسط قيم الدين والتدين والسياسة، فالله سبحانه تعالى لا يريد تنفيذ أو مشاهدة مثل هذا البؤس الدموي والقرابين البشرية على الأرض ليرضى، أو أنه تعالى جل شأنه على صلة حتى بمنفذيها، فمثل هؤلاء المجرمين ليسوا أكفاء لحمل رسالة الله في أرضه، وليسو أهلا لقيادة أو إشراف حتى على قمامة، فما بالكم بأمة إنسانية مسلمة ومسالمة.