على مدار زمن طويل، كان الإنسان يولد وتولد معه الخطوط العريضة لهويته. بمعنى أنه يولد وسؤال: من أنا، أو سؤال من هو، قد تمت إجابته مسبقا. الخطوط العريضة المقصودة هنا هي المحددات الدينية والعرقية والثقافية للأفراد. يولد الطفل والقرار قد تم اتخاذه مسبقا حول تحديدات انتمائه الديني والعرقي والثقافي. الطفل الذي يولد في عائلة مسيحية في القرون الوسطى كان من المسلم به عند من حوله أنه مسيحي. الطفل الذي يولد داخل جماعة عرقية معيّنة، فارسي مثلا، من المسلّم به أن يكون فارسيا وهكذا. هذه الخطوط العريضة لهوية الفرد تعني أشياء كثيرة أو بالأحرى تعني أن يعيش الفرد وفق نمط حياة وتفكير محدد بتلك العوامل. من ناحية الإمكان يستطيع عدد من الأفراد الخروج على تلك الخطوط والمحددات الجوهرية، لكن هذا الخروج أولا غير معترف به كحق وثانيا ذو تكلفة عالية جدا تصل كثيرا للقضاء على الفرد. الخروج هنا يعتبر جريمة أو خطيئة تتم المعاقبة عليها. الهوية الفردية هنا تمت الإجابة عنها مسبقا والفرد يقوم بتطبيق تلك الإجابة. الهويّة الفردية بذلك المعنى واحدة وكليّة وثابتة.
المعنى السابق للهوية كان محروسا بالحديد والنار وقبل ذلك بتربية حادّة مهمتها صياغة الأطفال، غالبا بالعنف النفسي والجسدي، في قالب واحد ومحدد. هدف هذه التربية أن يحفظ الفرد جيدا الجواب الذي يلقّن إياه على سؤال من أنا. تاريخيا تحققت إزاحات كبيرة لهذه الحالة. بمعنى أنه مع تصاعد الرؤى والأفكار الداعية للحرية والمنظّرة لها فلسفيا وسياسيا كان من الطبيعي أن يتجه النقد والتفكير للسؤال الرئيسي من أنا. هل يمكن الحديث عن حريّة إذا كان السؤال الأول "من أنا" تتم إجابته من أطراف أخرى غير الفرد ذاته؟ كيف يمكن القول بحرية الأفراد إذا كانوا لا يملكون الحرية لتحديد هوياتهم الفردية؟ في المقابل هناك واقع صارخ وهو أن الفرد يولد بالضرورة داخل سياق اجتماعي معيّن، ويقضي من عمره جزءا كبيرا وهو طفل عاجز عن الخروج بذاته عن ذلك السياق. إحدى صيغ الخروج من هذا المأزق هو ما يعرف بتربية الحرية أو التربية التي تعترف بحق الفرد في تحديد هويته بذاته. هذه التربية تحاول أن توفّر للطفل الصغير إمكانين جوهريين: أولا إمكان الانتماء بكل معانيه الحميمية للجماعة التي ولد في داخلها، والإمكان الثاني هو إمكان الخروج عن تلك الانتماءات لانتماءات أخرى بشكل طبيعي وآمن. تلك الإمكانات تتحقق من خلال إعادة تعريف الهوية مما يجعلها قدرة يمتلكها الفرد لا قوّة تفرض عليه. تلك الإعادة تعني تحويل الهوية من واحدة إلى متعددة، من كليّة إلى جزئية، ومن ثابتة إلى متحوّلة. سأتحدث عن كل تحوّل في فقرة مستقلة مع الإشارة لقيمة الحوار في تحقيق هذا التحوّل.
تربية الحرية تدرك أن الفرد ينتمي لجماعات مختلفة في ذات الوقت، كما تدرك أنه ليس لأي جماعة أن تهيمن على الجماعة الأخرى. الهوية هنا تدرك طبيعة التنوع والتعدد في حياة الفرد كما تدرك جوهريّة هذا التنوّع. الطفل من بدايته قد ينتمي لجماعة دينية وأخرى فنية وأخرى اجتماعية وأخرى رياضية... الخ، الانتماء هنا لشبكة من الجماعات مرتبة أفقيا تلبي كل جماعة حاجة مختلفة. تربية الاستبداد في المقابل تتبنى تصورا رأسيا يوفّر لجماعة واحدة فقط الهيمنة وتحويل البقية إلى هامش. الحوار بالنسبة لتربية الحرية جوهري لأنه الطريق الطبيعية للتواصل داخل شبكة علاقات أفقية تحظى كلها بشرعية ومعنى ضروري. بما أنه لا يحق لجماعة واحدة قمع الجماعات الأخرى فإن الحوار هو الطريق الوحيد للتواصل مع تلك الجماعات.
تربية الحرية، إدراكا منها لتنوّع الحاجات الإنسانية فهي تدرك أن كل انتماء لجماعة معيّنة هو انتماء جزئي لا كلي. الكل هنا هو الفرد الذي يجمع كل تلك العلاقات. غالب الجماعات التقليدية تسعى للهيمنة والشمولية من خلال تحويل ذاتها إلى مركز والباقي إلى هامش أو جعل ذاتها جوهرا وبالباقي عرضا. تربية الحرية تعيد الحق للفرد في أن يرتب العلاقات بحسب خياراته الخاصة. التحوّل من كلي إلى جزئي يعني عجز أي تعريف واحد عن استغراق الفرد. بمعنى أن القوالب التي عادتها ما يوضع الأفراد فيها للتعريف بهم لا تستغرقهم. يمكن الحديث عن أفكار أو سلوك الأفراد بصيغ استغراقية لكن ذواتهم أوسع وأعقد من أي قالب. الحوار هنا هو لغة داخلية بين الأجزاء التي تشترك في تكوين هوية الأفراد.
التغيير الثالث الذي تقوم عليه تربية الحرية هو تحويل الهوية من ثابتة إلى متغيرة، وهذا يجعلها دائما ضمن حرية الفرد وسيطرته وليست متعالية عليه. هذا يتطلب الاعتراف بحق الخروج. أي حق الفرد في الخروج من جماعة إلى جماعة أخرى دون أن يترتب على هذا الخروج عقوبة أو أذى. تربية الحرية تروّض جموح الأفكار أمام براءة الأطفال وتعيد التأكيد على أن كل الانتماءات خيارات وليست قدرا أزليّا. عمليا تتم تهيئة الأطفال لحق الخروج من خلال الانفتاح على الخيارات والسياقات والأفكار المختلفة. هذا الانفتاح يهيء الفرد لفهم وتقبل التغيير. تربية الاستبداد تقوم على أن تغيير الانتماء يعني فقدان الفرد لهويته. تربية الحرية في المقابل تقوم على فكرة تجديد وتغيير الفرد لانتماءاته. الفرد ثابت وانتماءاته متغيّرة. الانفتاح يتحقق عمليا في الحوار فهو لغة التواصل التي يمكن أن تجمع المختلفين ولا تفرّقهم.
الحوار هنا هو آلية تتشكل من خلالها الهويات الحرّة. الهويات المنفتحة دائما على الجديد والمختلف والمتنوّع. الهويات التي ترفض سجن القوالب المعدّة سلفا والتي يراد منها أن تحتكر وجود الإنسان وقيمة حياته ومعناها. تربية الحرية تدرك أنه اعتداء على إنسانية الفرد أن يقوم أحد غيره بتعريفه أو إلزامه بتعريف محدد لذاته. لا يحترمني من يردد أمامي: سأقول لك من أنت.