الشاعر علي آل عمر عسيري ـ رحمه الله ـ أحد الشعراء الذين كان القرآن الكريم رافدا من روافد أخيلتهم، واستمداده ناجم عن تدبر واضح؛ فحين أراد أن يأخذ على بعض الشعراء أساليبهم القائمة على العبث اللغوي، لم يجد أبلغ من أن يشبه قصائدهم بالذنوب التي أنذر الله أهلها بـ"نار الحطمة"، مستمدا الصورة من قوله تعالى: ?كَلا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ). يقول:

كَمْ يَشٍيْخُ الحَرْفُ غَمّاً عِنْدَمَا

يَنْخَرُ التَّسْطِيْحُ عَظْمَ الكَلِمَهْ

إذْ تَخُطُّونَ فَرَاغَاً شَاحِبَاً

تَتَدَلّى فيهِ نَارُ الحُطَمَهْ

فشبه ما يكتبه هؤلاء بالمعاصي، ثم إن القافية منحته تخصيص هذه النار باسم من أسماء نار جهنم، وهو "الحطمة"، وهو تخصيص موفق عند النظر إلى كون الوعيد القرآني في الآيات موجها إلى الهمازين اللمازين، وهما صفتان متعلقتان بالقول، والقصيدة موجهة إلى أصحاب القول المكتوب، ويمكن – في حال الاطمئنان إلى هذا الاقتران – أن يكون هناك تشبيه ضمني آخر؛ وهو تشبيه شعر هؤلاء، بأقوال الهمازين اللمازين الذين يستحقون العذاب.

والناظر في الصور المستمدة من القرآن الكريم، عنده، يلحظ أنها متخلقة من أسئلة عن المعاني القرآنية، وبرغم ذلك فقد كان يعمد إلى استثمار الصورة دون أن تبقى على هيئتها الأصلية، حتى إنه قد يحولها من حسية إلى معنوية، فيكون مصدرها القرآني خفيا، لا يصل القارئ إليه إلا بعد التأمل وإعادة النظر، والاعتماد على وجود ألفاظ قرآنية، تشي بمصدر الصورة، ومن ذلك تشبيهه القهر الذي يعانيه الفلسطينيون بغليان الماء، أو الصوت الناجم عن الاحتراق، لكنه لم يستخدم تركيب: "غليان الماء"، أو لفظة: "غليان"، أو ما يشبههما، وإنما استعاض عنهما بلفظة: "الأزيز"، ومشتقاتها، مستمدا اللفظة والصورة من قوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا?، فتؤزهم أزا: أي توغر صدورهم، وتزيد في غليانها وحقدها على الخير والإيمان. يقول:

وَيَئِزُّ "القَهْرُ المَارِدُ" تَحْتَ الأنْقَاضِ.. أَزِيْزَا

تسمَعُهُ كُلُّ الدُّنْيَا

صَوتي أقَوَى

صَبْرِي أقْوَى

لكنّ الصّبْرَ يَظَلُّ حَبِيْسَاً لا يَقْوَى

ومن خلال تفسير اللفظة كما وردت في السياق القرآني، ثم معناها المعجمي المتعلق بأصل وضعها، يتضح أن الشاعر يعرف معناها في السياق القرآني معرفة تامة؛ فجاءت عنده موافقة لمعناها القرآني، وتحولت اللفظة من كونها دالة على المحسوس، وهو صوت غليان الماء في القدر، إلى المعنوي، وهو ما يجيش في الصدور من غل وحقد شبيهين بالغليان، مما يؤكد أنه استمدها من الصورة القرآنية، بعد تدبر، وهي صورة تشبيهية، تدخل في التشبيه الضمني، إذا عددنا تركيب: "تحت الأنقاض" جزءا منه، إذ يصير تشبيه هيئة مركبة، بهيئة مركبة، وتغيب أداة التشبيه، أو يكون من التشبيه البليغ إذا حصرنا الصورة في طرفي التشبيه، والمفعول المطلق.

رحم الله أبا عبدالرحمن، فقد كان ذا لغة خاصة، وخيال خاص.