يكاد يتفق المسلمون عموماً، على أن أهم مصادر التشريع في الإسلام هما: القرآن الكريم والسنة النبوية، ويدركون أيضاً بأن العلماء يختلفون في فهم وتأويل كثير من النصوص الشرعية سواء من الكتاب أو السنة، وأنها ليست على درجة واحدة من الوضوح، لذا هناك تفسيرات مختلفة لآيات القرآن ونصوص الأحاديث.

ويؤكد علماء المسلمين في هذا المقام على أن أسباب الاختلاف في تفسير النصوص الدينية تعود إلى عدة عوامل، من أبرزها ما يلي:

*قد تكون الأدلة والنصوص في لفظها مجملاً، أو ترد أدلة فيحملها بعضهم على العموم وبعضهم على الخصوص، أو الإطلاق والتقييد، أو الاختلاف في الناسخ والمنسوخ، أو التعارض بين الدليلين مع إمكان الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما على الآخر.

*اختلاف اللغة العربية في دلالتها كالحقيقة والمجاز ومعاني الألفاظ والحروف، وبناء على خلاف أهل اللغة حصل الخلاف بين العلماء لأن نصوص الشرع وردت باللغة العربية.

تلك هي أبرز الأسباب المؤدية لاختلاف العلماء في تفسير النصوص الدينية وباعتراف الدعاة ورجال الدين، وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض العلماء اقتصر هذا الخلاف في المسائل الفقهية وفي النصوص الشرعية غير قاطعة الدلالة، وفي المسائل التي ليس فيها نص!

وعلى هذا الأساس، يحاول البعض التعتيم على مناهج تفسير القرآن المختلفة وكذلك بالنسبة لنصوص الأحاديث، ويحاولون التعتيم أيضاً على اختلاف المعاني في اللغة العربية والاختلاف في دلالة الكلمات والألفاظ.

فهل سألنا أنفسنا يوماً: لماذا توجد كتب مختلفة لتفسير القرآن الكريم؟ ولماذا يختلف تفسير ابن كثير عن تفسير الزمخشري وكذلك تفسير فخر الدين الرازي وغيرها من كتب التفاسير الأخرى؟ وهل تساءلنا أيضاً عن المنهجية التي يسلكها المفسرون في تفسير وتوضيح معاني الآيات؟

لا شك أن هذه الشروح أو التفاسير المختلفة كانت وليدة الاختلاف في القواعد وتعدد المناهج في فهم وتفسير النصوص الدينية، فلكل مفسر طريقته في تفسير الآيات، فهناك مناهج مختلفة يصعب حصرها، ولكن يمكن طرح أمثلة مبسطة على ذلك: فهناك من يأخذ العقل أداة للتفسير أو النقل، أو الاثنين معاً، وهناك من يعتمد على تفسير القرآن على نفس القرآن أو على السنة، أو على كليهما، وهناك من يتجه إلى إيضاح المادة القرآنية من حيث اللغة، وآخر إلى صورتها العارضة عليها من حيث الإعراب والبناء، وهناك من يتجه في التفسير إلى الجانب التاريخي والقصصي، وهكذا.

فلو أخذنا -على سبيل المثال- قوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) الأنبياء7، فهناك من فسر معنى (أهل الذكر) برجال الدين والعلماء والأئمة وضرورة سؤالهم في كل ما يتعلق بالدين، والمفسرون هنا أخذوا بعموم الآية بمعنى أنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها أن يسأل من يعلمها من العلماء الراسخين في العلم.

وهناك من فسر (أهل الذكر) بعلماء التوراة والإنجيل من أهل الكتاب، كما جاء في تفسير الجلالين، وهناك من خص أهل الذكر باليهود، فالخطاب موجه في الآية إلى (كفار قريش) الذين أنكروا الدعوة الإسلامية لأن الله قد أرسل لهم بشراً مثلهم، لذا فعلى كفار قريش سؤال اليهود الذين توالت عليهم أعداد كبيرة من الرسل البشر، وبإمكانهم التأكد من صفة الرسل وما إذا كانوا ملائكة أو بشراً من خلال سؤالهم عن ذلك، وهنا استخدم المفسرون منهجية السياق القرآني لمعرفة معنى أهل الذكر.

أما بخصوص المعاني ودلالة الألفاظ، فكما هو معلوم فإن اللغة العربية تمتاز بخصائص قلما نجدها مجتمعة في لغة بشرية أخرى، فنجد ألفاظا لها معان متعددة ومختلفة، وقد تعطي اللفظة الواحدة معنيين مختلفين ومتناقضين، ناهيك عن كثرة المترادفات في المعنى الواحد، وقد تتغير بنية الكلمة في اللغة فيقدم فيها حرف أو يؤخر من غير أن يتغير المعنى، وهكذا، وهذه الخصائص لها دور كبير في اختلاف تفسير النصوص الدينية بين العلماء، والبعض يقول بأن الاختلاف يرجع إلى الغاية التي يقصدها الناس من اللغة، لذا فإن اللغة قد تختلف من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، وبالتالي تختلف طرق المفسرين ومنهجياتهم لاختلاف بيئاتهم وظروفهم، وبعبارة أخرى فإن المفسر يمتلك سلسلة من الفرضيات والتصورات الذهنية المأخوذة من المجتمع للألفاظ والمعاني ويسقطها على النصوص الدينية لتفسيرها لمعانٍ معينة.

وبناءً على ما سبق، وكما رأينا آنفا، اختلاف العلماء في مناهجهم وقراءتهم للنصوص الدينية باختلاف الزمان والمكان وباختلاف بيئاتهم وظروفهم، وبالتالي تعدد القراءات للدين، فلماذا إذن يقاوم ويعترض البعض على القراءات الجديدة للإسلام والنصوص الدينية؟

هناك طائفة من الناس للأسف الشديد ترى نفسها ملزمة بمنع الأفكار المخالفة لها من الانتشار والامتداد في جو الفكر، وربما استخدمت وسائل القوة والقهر ضد الطرف الآخر الذي يحاول استخدام المنهجيات العلمية والحديثة في تفسير النصوص الدينية، بهدف كبت الرأي الآخر والحفاظ على المكانة الاجتماعية بين الناس، وبالتالي حفظ القراءة الدينية القديمة التي يرون أنها هي الصحيحة والحقة، وما سواها مجرد بضاعة منقولة "من عند الغرب من نظريات سلطوها على دينهم المحرّف فهمشوه بها، فأراد بنو جلدتنا.. تطبيقها بالمثل على خاتم الأديان، ولكن هيهات لهم، فالله حافظ دينه، ولكن المنافقين لا يفقهون"!، وعلى هذا الأساس فإن القراءات الجديدة ليس لها حق الحياة أو النمو والامتداد، والويل كل الويل لمن يأتي بتفسير جديد للقرآن أو الحديث، مع أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول عن القرآن :"إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال"، وفي رواية أخرى يقول: "القرآن حمّال أوجه.."، فهل يدرك المعترضون معنى هذا الكلام؟