أعترف ابتداء بأن لي موقفا شخصيا مع وزارة العدل ووزيرها معالي د. محمد العيسى، إذ أقامت عليّ دعوة قضائية قبل ثلاث سنوات، إبّان إدارتي لبرنامجي الموقوف "البيان التالي" في قناة "دليل"، ورغم أن القضية انتهت، إلا أن آثار تلك الدعوى لمّا تزل تتجلجل في نفسي لليوم.

مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الإلكترونية تعجّ هذه الأيام وتلغط بالحديث عن بيانات القضاة فيما بينهم، فقد دبّج مئتا قاض خطابا وجهوه للمقام السامي، حقنوه بملاحظاتهم العديدة عن أداء الوزارة ووزيرها، وطلب مني أحد القضاة الأصدقاء أن أعلق على ذلك الخطاب المتسرب للإعلام، فأجبته بأن لا خبرة لي ولا معرفة بالميدان العدلي، ولي موقف شخصي، بيد أنني أضع ذلك جانبا، فالحق أكبر مني ومنهم، وما رأيته في كتابات العدل، أمر مبهج وأفرحني، وأقف للوزارة احتراما وتقديرا لما وصلت له هناك، بل أكثر من ذلك؛ إن ما رأيته يعطي صورة إيجابية لإدارة الشرعيين العصرية لمؤسساتهم المنوطة بهم، بيد أن صديقي القاضي جبهني بكون كتابات العدل هامشية، في مقابل الإشكالات الحقيقية بما ورد في الخطاب.

عدت لخطاب (الـ200 قاض)، وقرأت ملاحظاتهم بدقة، وربما كان أبرزها هو تأخر مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء، والمرصود له سبعة مليارات ريال، وهناك إهمال تأسيس دُور العدالة (المباني) والتي لا تتناسب- في وضعها الحالي- مع ما يجب أن تكون عليه، وعدم معالجة تأخير إجراءات التقاضي، وتباعد مواعيد الجلسات القضائية، وتدفق القضايا غير المدروس، وضعف تأهيل الموظفين والأعيان.

تحدثت مع معالي الدكتور عبدالله السعدان مستشار وزارة العدل حول تلك الملاحظات، والرجل صديق قديم وأثير لنفسي، أثق في حكمته وموضوعيته، فأقسم بالله العظيم الذي لا إله إلا هو إن معظم ما ورد في هذا الخطاب كذب ومغالطات، فرددت عليه بأن هذا القسم وإن كنت أقبله منه كصديق وثقة؛ إلا أنه لا يغني شيئا أمام المجتمع الذي يريد حقائق وأرقاما تدحض هذه التهم التي نالت أداء الوزارة.

د. السعدان وجه دعوة لي ولكل إعلامي أو مواطن ليزور مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء، وليروا بأنفسهم كيفية العمل الدؤوب فيه، وقال: يا أبا أسامة وصلتنا شهادة تزكية وإشادة من مجلس الوزراء، وهذه الشهادة الكبيرة من مجلس بهذا الحجم، لا تصدر إلا بعد تمحيص ودراسة عبر هيئة الخبراء، ولا يمكن أن تأتي من فراغ أو مجاملة. وهذه التزكية كانت قبل خطاب (الـ200 قاض) بأسبوعين فقط، وهناك شهادة من هيئة مكافحة الفساد (نزاهة) بأن وزارة العدل هي أولى الوزارات في التفاعل والحرب ضد الفساد، هذه شهادة ثانية. وإن لم تقنعك هاتان، فدونك شهادة من الصندوق الدولي حول مشروعات الوزارة، فضلا عن عشرات الشهادات من وزراء عدل دول، زاروا المشروع وأبدوا إعجابهم الكبير.

أما بالنسبة لتأخر البتّ وتباعد مواعيد الجلسات، فيؤسفني القول إن بعض القضاة السبب في ذلك، عبر تقاعسهم أو عدم انتظام دواماتهم.

في الماضي كان القاضي يصدر أربعة أو خمسة صكوك يوميا، واليوم يصدر حوالي أربعين صكا في اليوم الواحد، بفعل الرقابة الإلكترونية للمشروع، ونحن ماضون بجدية كبيرة في العمل الحقيقي المواكب لما يتطلع له ولاة الأمر من تيسير وتسهيل معاملات المواطنين وعدم تأخيرها.

أما ضعف تأهيل الموظفين، فأقولها لك بالفم الملآن: قبل عام 1430 هـ، لم يتلق القضاة أية دورات تدريبية قط، والآن يتلقى القاضي الواحد سنويا ما يقارب الأربع أو الخمس دورات في فنون ومجالات عديدة، ودربنا أكثر من أربعة آلاف موظف خلال عام واحد. أما التأخر في المباني، فثمة أغاليط هنا، فأولئك القضاة يدلسون التاريخ، ويحسبونها من عام 1428 هـ، بينما مجلس الوزراء لم يعتمدها، ويعطي الإذن بالبدء بها إلا عام 1433 هـ، أي منذ عام ونصف فقط، فكيف بالله نقيم مباني كبيرة بهذه المدة القصيرة؟

الصديق د. السعدان فند ما جاء في خطاب ( الـ200 قاض) فقرة فقرة، وأشار إلى أن هناك خطابا صدر من ثلاثمئة قاض، يردون على زملائهم هؤلاء، وينكرون عليهم مغالطاتهم، ويبينون الحقائق بالأرقام حيال ما أنجزته الوزارة.

قلت للصديق السعدان إن ما يحصل في الساحة العدلية سابقة تاريخية لم تحصل قطّ، وصورة القضاة والوزارة في طريقها للتشوه أمام المجتمع، لهذه الترادحات والمعارك التي نراها، وخذها مني أيها الصديق القاضي: لا كاسب أبدا في هذه القضية، وحتى أولئك القضاة أساؤوا لأنفسهم وللوزارة التي يعملون فيها.

أناشد كمواطن ورجل محبّ لأهل الشريعة والقضاء جميع الأطراف أن أوقفوا هذه الترادحات التي لا تليق، لا بقضاة ولا نخب عدلية ولا شرعيين نفخر بهم. وأتوجه للعلماء أن يبادروا بالتدخل وإيقاف الإيغال، بل الفجور في الخصومة التي رأينا - وما زلنا نراها - في الساحة العدلية، فالجميع خاسر في هذه المعركة ولا كاسب أبدا.

أثق في حكمة معالي وزير العدل د. محمد العيسى أن يحتوي الموضوع وأن يصبر على ما جاءه.

أيها العلماء، تداركوا ما يحدث، فهذه صورة الشريعة وأهلها، لا الوزير وبعض قضاته.