وقف أحد شباب "الإخوان" يصرخ موجها سبابه وتهديداته لقاطني ذلك الحي الراقي الهادئ قائلا: "أيها العبيد لن يحميكم السيسي من عقابنا وعقاب الله، إن كنتم تعرفونه أصلا"، في إشارة لقائد الجيش المصري، وهنا تجدر الإشارة إلى الطبيعة الخاصة لحي (هليوبوليس) أو مصر الجديدة، الذي بناه البلجيكي البارون إمبان، ليتسم بتنوع ديموغرافي يُثير الإعجاب، إذ يقطنه خليط من المسلمين والمسيحيين وحتى اليهود، بجانب جاليات أجنبية كالإغريق والأرمن والإيطاليين وأخرى عربية كالشوام واللبنانيين، وجميعهم ولدوا بهذا الحي وحصلوا على الجنسية المصرية، لكنهم مازالوا يحتفظون بهويتهم في مجتمعاتهم الخاصة كالأندية الاجتماعية والكنائس غير القبطية وغيرها.

ومن جهة التصنيف الاجتماعي فهو (حي النخبة) من الطبقة الوسطى العليا التي تتألف من كبار رجال الأعمال والضباط والقضاة والأطباء والفنانين المشهورين ورجال الدولة من مديرين ووزراء سابقين وحاليين، ويتعايش هؤلاء في تناغم لم تنل منه موجة التعصب التي ضربت مصر خلال العقود الخمسة الأخيرة.

ولعل من أبرز سمات حي هليوبوليس موقف الغالبية الساحقة لسكانه المناوئ لجماعات الإسلام السياسي، لأسباب شتى، أبرزها التعايش السلمي والودود بين قاطنيه، كما يضم قصر الاتحادية الرئاسي الذي كان فندقا شهد الكثير من محطات تاريخ مصر المعاصر، ولهذا تحول لهدف مستمر لممارسات العنف التي يقودها أنصار جماعة الإخوان.

يقف مواطنو هذا الحي الراقي يلوحون لمتظاهري الجماعة الذين يردون عليهم ليس بالسباب فحسب، بل بحرق سياراتهم وإلقاء (زجاجات المولوتوف) على منازلهم فيضطر سكان الحي المسالمون لإغلاق الشرفات والنوافذ والاتصال بالشرطة التي تأتي لتشتبك مع أنصار الإخوان المسلحين بشتى أنواع الأسلحة، وقد رأيتها بعيني، لأني عشت طيلة عمري بهذا الحي، وأعرف كل شبر فيه.

وهكذا أصبحت ضاحية هليوبوليس هدفا سهلا لممارسات الإخوان، ليقينهم أن ما يحدث بهذا الحي يصل لشتى أنحاء العالم بما يضمه من مقار رسمية، أبرزها القصر الرئاسي، فضلا عن أن قاطنيه لن يشتبكوا معهم، حتى جاء يوم حالك السواد رأيت بعيني فيه مشهدا كنت أتمنى أن يسترد الله تعالى وديعته قبل أن أشاهد عربات مترو مصر الجديدة تحترق على رؤوس الأشهاد بينما نقف عاجزين عن وقف الكارثة، وتزاحمت في مخيلتي ذكريات العمر، وأجمل أيامه.

حملنا المترو لمدارسنا وجامعاتنا، وكان شاهدًا على الآمال التي حلمنا بها، ونظرات الإعجاب المتبادلة التي لا يشوبها تحرش ولا وقاحة، بل كنا نتبارى ونحن صبية في منح مقاعدنا لكبار السن من السيدات والرجال، وصولا للصبايا اللاتي كن زميلاتنا في المدرسة أو حتى مدارس أخرى، كما كان والدانا يعلماننا الأصول وقواعد التعامل الراقي أو (الإتيكيت) منذ نعومة أظافرنا.

ثمة منظومة كاملة من الذكريات والأمنيات التي تحقق بعضها وراح معظمها أدراج الرياح، تبخرت في (لحظة إجرامية) حمقاء بيد من يرفعون شعارات دينية، وأخرى (ثورية) وحينها توالت الاتصالات من رفاق العمر، زميلات وزملاء مضى كل منا في طريقه، لكن ظلت بيننا مودة لم تنقطع رغم اختلاف المشارب، وكانوا جميعا يوبخون بعضهم البعض قائلين: كيف نقف متفرجين مع العدوان على أجمل معالم حينا الذي تزينه الأشجار العتيقة وتفوح من بين ثناياه رائحة الذكريات الرومانسية، وحتى المؤلمة كفقد عزيز، أو هجرة أسرة صديق أو صديقة؟!

أخذت الحماسة بعضنا فقرر النزول ومعه كل أبناء العقار والجيران بأسلحتهم المُرخصة، ولكنني حينها طالبتهم بتحري الحكمة خوفا عليهم، وذلك على الرغم من حماسي الذي لم تنطفئ جذوته، فقد كنت أحد الشباب المسكونين بالنزق، بل وأقود (شلة) من رفاق العمر قبل عقود مضت، لدرجة أن أبي يرحمه الله لم يجد وسيلة للسيطرة على نزقي، وما يسببه له من مشكلات يتجشم عناء تطويقها بالاعتذارات والترضيات، سوى إلحاقي ومعي أخي الأصغر - الذي كان نسخة مُصغرة مني - بالكليات العسكرية والشرطة، وبعدها كان ينظر لنا خلال إجازات نهاية الأسبوع بشماتة متسائلا: هل علمتكم الكلية معنى الانضباط والرجولة؟

مضت عقود، مات خلالها كثيرون من آبائنا وأمهاتنا، وهاجرت عائلات كثيرة من رفاق الصبا لأوروبا وأميركا وكندا وغيرها، وبقيت مع من تبقى من رفاق الصبا نجتمع في مقهى يملكه يوناني تأسس قبل أكثر من قرن، أو في أندية الضاحية مثل هليوبوليس وهليوليدو والطيران وحتى نادي الأرمن الذي يحمل اسم (آرارات) والذي يعرفنا رواده منذ الصبا الباكر.

التقينا مرارا واستمعنا لمقترحات بعضنا البعض التي كانت تدور حول فكرة تأسيس (لجان شعبية) للتصدي للاعتداءات المتكررة على حينا الجميل، لدرجة حرق أشجار كنا قد حفرنا عليها الحروف الأولى لأسمائنا ومن كنا نعتقد خلال فترة المراهقة أننا نُحبهن، بل تُوجت بعض هذه القصص الرومانسية بالزواج فعلا، بينما فرقت اعتبارات كثيرة بين أولئك (العشاق الصغار)، كأن يقع مسلم في هوى زميلته المسيحية أو حتى العكس، أو ترفض عائلاتنا فكرة الزواج قبل إنهاء الدراسة والالتحاق بالعمل، بل وقضاء عدة سنوات حتى ننضج تماما، ونُحسن الاختيار بعقلانية لا تشوبها تلك المشاعر البكر التي أدركنا بعد رحلة العمر أنها لا تصلح بالفعل أساسا لبناء الأسرة، بل نشعر بالأسف لما سببناه لآبائنا من متاعب ونعتذر لهم وقد صرنا آباء واستوعبنا (حكمة الكبار).

ومازلنا نُفكر كيف نوقف هذا العدوان المتكرر على حينا الجميل، وذكريات الصبا والمراهقة الأجمل، وتحتدم بيننا المناقشات بين دعاة لتأسيس (لجان شعبية) تتصدى بقوة لقوافل الشر التي يشنها الإخوان وأشياعهم، بينما أحاول بلطف وحكمة احتواء هذا الغضب المبرر، باعتبار أننا لو تورطنا في عنف مضاد، فسيحدث ما لا تحمد عُقباه، وسنحقق لعصابات الإخوان ما تسعى لتحقيقه وهو (الاقتتال الأهلي) فيثور البعض في وجهي، ويوبخني أحدهم متسائلا باستنكار عن ذلك الفتى النزق الذي كنته ذات زمان مضى، بل واتهامي بالجُبن، وسقوطي في فخ المواءمات التي تمارسها النخبة، فابتسم بمرارة وألوذ بالصمت، حتى يتطوع صديق آخر بالدفاع عن رؤيتي بأنها تتحرى الحكمة، وتفوت على (تُجّار الدم) فرصة الانزلاق لحروب الشوارع، لأنهم بعدما خسروا الحكم والشارع تحولوا من جماعة كانت تملك السلطة لعصابة تُثير العنف والترويع، ونعتذر لبعضنا البعض بكل محبة صادقة، ونواصل التفكير فيما ينبغي أن نفعله لحماية بقعة غالية من وطن يريد له تنظيم إرهابي الفوضى والحرب الأهلية، لأنه لا يعنيهم في شيء بقدر ما تقودهم أوهامهم لحرق الأخضر واليابس.

باختصار لم يعد الأمر في مصر صراعا سياسيا، بل هو "حرب وجودية"، يستخدمون فيها كل أدوات العنف والإرهاب، لكن حكمة التاريخ علمتنا حقيقة بسيطة حاسمة مفادها أن العصابات لا تهزم الشعوب والدول والجيوش والأمن والقضاء والإعلام وكافة المؤسسات، وكلنا ثقة برحمة الله تعالى وعدالته بانتصار مصر في نهاية المطاف.