كانت حادثة مستشفى العريض من البشاعة التي تعقد اللسان عن الحديث، وتجعل المرء في حيرة كيف يعبر عما جرى، فقد كنا نقرأ في كتب التاريخ عن نابتة الخوارج التي خرجت في وقت الصحابة الكرام.. تلك النابتة التي كانت "استباحة الدماء" أحد أبرز معالمها السلوكية والفكرية، وكيف أنهم حين يتمكنون من أحد فإنهم يقتلونه ويشوهون وجهه، ويقتلون زوجته ثم يبقرون بطنها وهي حامل، ثم يخرجون الصبي فيقتلونه ويلقونهم في النهر.. هكذا فعلوا بعبدالله بن خباب بن الأرت ابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يفعلون ذلك بدم بارد لا يحرق مشاعرهم ولا يؤثر في عواطفهم، بل يضيفون إلى ذلك أن ما يفعلونه هو حق وجهاد وتطبيق للدين وتعاليمه!

حين رأيت أحفاد هؤلاء يتجولون في المستشفى، يأتون إلى بعض الخائفين من النساء والمرضى وعيونهم تنظر إليهم بهلع، فيلقي أحدهم عليهم قنبلة تفتك بأشلائهم وتمزقها، ثم يوجه آخر منهم سلاحه إلى رأس طبيبة آثرت إعانة الجريح على الهرب، وتحركت إنسانيتها ودفعها إيمانها بواجبها إلى أن تمارس مهمتها في هذا الجو المرعب فيصوب السلاح إلى رأسها ويقتلها بلا تردد، ويجوبون المشفى بثبات وحركة هادئة وكأنهم يقتلون بعض الحشرات الضارة، أيقنت أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم حق وصدق وعلامة نبوءة بأن هؤلاء سوف تعاني منهم الأمة إلى قيام الساعة، وأنهم يتوارثون هذا المنهج المنحرف الضال وينسبونه إلى الشريعة، وأن مهمة التعامل معهم قاسية للغاية، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: "لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال"، وإنهم "يقولون بقول خير البرية".

إن القتل بشاعة وذنب عظيم، وعدته الشريعة من الموبقات الكبيرة. وجاء الوعيد لمن يقتل مؤمناً متعمداً بأن جزءاه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، ومع ذلك فقد يقع من المسلم في حالة غضب وضعف إيمان أن يقتل ويقع في ورطة يحس بعدها أن الدنيا قد أطبقت عليه، وأنه تحت رحمة الله ثم رحمة ولي الدم.. يتوب ويستغفر من هذا الذنب العظيم، وحده الدنيوي القصاص، ولكن المشكلة عند هؤلاء الخوارج ليست في الوقوع بهذا الذنب الذي يمكن أن يقع من المسلم شرعاً وواقعاً، وإنما هي في "الاستحلال" الذي يجعل أحدهم يقتل وهو يرى أن فعله حق وجهاد، لا يتحرك شعوره وهو يمارس هذه البشاعة، بل إنه يدعو الناس إلى هذا الفعل ويرغب فيه، وهذا ما جعل بعض العلماء من السلف والخلف يحكم على من يفعل هذه الأفعال بالكفر والضلال، لأنه استباحة لأمر محرم بإجماع المسلمين، إذ إن القاتل "السياسي" كما يسميه الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ يقتل وهو يستحل الدم، بخلاف القاتل العادي الذي يقع في الذنب وهو يدرك عظيم جرمه وضخامة فعله.

الأخطر من ذلك هو تهافت الكثير من شبابنا في هذا الوقت وفي هذه الظروف الملتهبة في العالم الإسلامي على هذا الفكر والخروج إلى مواطنه في اليمن وسورية والعراق وغيرها، إذ لم يمر منذ حرب أفغانستان الأولى وإلى الآن وقت برز فيه هذا الفكر كما هو موجود الآن. والمشكلة الكبيرة هو انتشاره في أوساط صغار السن من الشباب. ومن يتابع تصريحاتهم حين يصلون إلى سورية ومواقع القتال فيها أو اليمن يدرك أنهم يعلنون مباشرة الوعيد الشديد لهذه البلاد بالقتل والويل والثبور، ويعلنون التكفير بلغة واضحة لا تعمية فيها. ولا يزال الخطاب الشرعي والدعوي والإعلامي دون المستوى في مواجهة هذا الفكر ومحاولة نزع فتيل هذه الشبهات التي تعلق بهؤلاء الشباب فيحملون هذا الفكر المضر دينياً ودنيوياً. فهذا الفكر مثل البكتيريا التي تكمن في الأرض تنتظر الفرصة المؤاتية للظهور والانتشار، ثم تتدخل الأطراف الخفية الخطيرة التي تستقطب هؤلاء الشباب وتحولهم إلى أدوات فتاكة، وتعينهم وتسهل لهم دروب التحرك إلى أماكن التوتر التي تزرع وتعمق فيهم أفكار التكفير والقتل والقتال. وما دعوى نصرة المستضعفين في تلك البلاد إلا مظلة لفكرة سياسية أخرى تقوم على التكفير والقتال والطموح السياسي بعيداً عن المصالح الخاصة في تلك البلاد، ولذا تجد أن هذه الجماعات من أضعف الجماعات مواجهة في الساحات، بل كل حرصها هو في انتظام صفوفها في منهج فكري وسياسي آخر يتجاوز الحالة السياسية سواء في العراق أو في سورية أو في اليمن أو في غيرها، وتجد أن الشاب السعودي عضو فاعل جداً في هذه الجماعات، وأداة طيعة جداً في أيدي هذه المنظمات الخفية التي لا ندري من يقف وراءها، إلا أن أصابع الاستخبارات العالمية واضحة في تحريك هذه الجماعات لإحداث الفوضى، واستغلالهم لفكرة "حروب الجيل الرابع" التي هي أشد فتكاً من غزو العدو المباشر للأمم.

إن الأمر خطير للغاية، وخطورته هي في حركة الارتداد إلى المجتمع بعد نهاية الأحداث، تماماً كما حدث بعد نهاية الحرب الأفغانية ورجوع جموع الشباب الذين شكلوا النواة الأولى للقاعدة في السعودية، والتي عانت منها البلاد وراحت ضحيتها مهج مؤمنة، واختل بسببها الأمن وتوتر المجتمع، وسوف تكون عودة هؤلاء أشد ضراوة من سابقاتها، لأنها ستكون في أوضاع سياسية ملتهبة ومشروعات ضخمة تحاك ضد البلد، وسوف يستخدم هؤلاء لتوتير الوضع الداخلي وخلق حالة كبيرة من المشكلات الداخلية التي تؤدي في النهاية إلى تنفيذ مخططات الفوضى التي تطبخ الآن على نار هادئة.