لفت نظري الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام خلال الأيام الماضية عن رفض "نجمة داود الحمراء"، الموازية في الكيان الصهيوني للهلال الأحمر، قبول تبرع الدم من النائبة من أصل إثيوبي "بنينا تامانو شاتا" مبررين ذلك بقولهم: "وفق تعليمات وزارة الصحة من غير الممكن قبول دم لشخص من أصل يهودي إثيوبي".. حدث ذلك أثناء حملة للتبرع بالدم نظمت داخل البرلمان الصهيوني.
وما اهتمامي ذاك، إلا لأن هذه النائبة اعتقدت أنها نجحت في مسعاها نحو وأد العنصرية في هذا الكيان؛ فقد شاركت منذ التسعينات في مظاهرة دامية تحت شعار "دمكم مثل دمنا"، قام بها الفلاشا - يهود إثيوبيا - ضد سلطات الكيان الصهيوني ووزارة الصحة بشكل خاص احتجاجا على عملية تخلص بنك الدم من كميات كبيرة من الدماء تبرعوا بها، وهي العملية السرية التي كشف الإعلام عنها، لقد ذكرت النائبة باستياء: "ومنذ ذلك العهد وتلك المظاهرة التي شاركت فيها، لم يتغير شيء".
ولكن المضحك حقا في هذه الواقعة كانت ردة الفعل الرسمية لوزارة الصحة والتي تظهر عظم تقديرها للفلاشا الإثيوبي، فقد جاء تصريحها: "أنه بعد مشاورات قال مسؤولو الهيئة الإسرائيلية المعنية إنهم على استعداد لتلقي دم النائبة في البرلمان لكن سيتم تجميده ولن يستخدم"!!.
إن ممارسة العنصرية في عصرنا الحالي تكاد تكون مغيبة من الناحية الرسمية بحمد الله، فمن يمارس النظرة العنصرية تجاه شخص لاعتقاده أنه من عرق أفضل أو طبقة أعلى.. وما إلى ذلك من أسباب يعتقدها صاحبها أنها منطقية لتعامله مع غيره بفوقية، يمارسها دون سقف يحميه نظاما، ولكنك ستجد العنصرية تمارس تحت مظلة قانونية مدعمة بقرارات حكومية واجتماعية في الكيان الصهيوني... هناك لن تجد التعامل العنصري موجها فقط للعرب أصحاب الأرض المحتلة، حيث يحرمون من أبسط حقوقهم كبشر بل كشعب محتل - وهو ما أشرت إليه في مقال سابق - بل ستجد العنصرية تمارس من قبل "الاشكنازيم" - يهود شرق أوروبا - أصحاب القرار السياسي في الكيان الصهيوني، ضد "السفرديم" - يهود المشرق القادمين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط وتركيا والهند وغيرها - ولكن وضع "الفلاشا" - يهود إثيوبيا - الذين تم جلبهم للكيان الصهيوني بغرض زيادة عدد سكان اليهود في الأراضي المحتلة أسوأ بكثير، هؤلاء عندما غادروا إثيوبيا كان اعتقادهم السائد هو أن الكيان الصهيوني سيضمن لهم الحياة الكريمة، لقد أُوهموا أنهم سيذهبون إلى أرض السمن والعسل، ليجدوا أنفسهم محاطين بسياج من التعامل العنصري وعلى كافة الأوجه، قابعين في أسفل القائمة البشرية في التنظيم الاجتماعي لهذا الكيان العنصري، وقد ذكر "إديسو ماسالا"، رئيس "جمعية يهود إثيوبيا": "لقد أتينا إلى بلاد السمن والعسل، لكي نشارك بقية أبناء الشعب اليهودي بناء المشروع الصهيوني الكبير، لكننا فوجئنا أن أحدا لا يريدنا هنا"، وأكد أنهم "يتعاملون معنا باستعلاء لأننا شرقيون ولأننا سود البشرة"!
في هذا الكيان يمنع الفلاشا من السكن في المناطق المخصصة للاشكنازيم أو حتى السفارديم، وهذا المنع كما يمارس على النطاق الاجتماعي يمارس أيضا على الصعيد الرسمي، فقد رفض عمدة "أو يهودا" وهي مدينة في "تل أبيب" طلبات تقدم بها مهاجرون إثيوبيون للسكن فيها، وبرر رفضه بخوفه من انخفاض أسعار العقارات وازدياد معدل الجريمة، كما تعطى نساء "الفلاشا" أثناء وجودهن في مخيمات العبور حقن منع الحمل دون إظهار الآثار السلبية المترتبة على صحتهن من جراء تعاطيهن لهذه الحقن، والغريب أن منظمة صهيونية تعنى بحقوق المرأة تقول: "نحن نعتقد أنها وسيلة للحد من عدد المواليد في مجتمع أسود ومعظمه من الفقراء"!
هذه الممارسات العنصرية لا تخلو منها المؤسسات التعليمية فبعض المدارس الصهيونية لا تقبل أبناء هذه الطائفة بسبب أصولهم الإثيوبية، وإن قبلوا فلن يكون مستبعدا تعرضهم للتميز العنصري ليس من قبل الطلبة فقط، بل من قبل المعلمين الذين يفترض أن يكونوا مثلاً أعلى للأخلاق، فالمعلمون والطلاب على حد سواء ينادون أبناء الإثيوبيات "كوشي" أي "العبد الأسود"، وهي كلمة شائعة الاستعمال في هذا الكيان، كما ليس مستغربا رفض الطلبة الجلوس بجانبهم للسبب ذاته، أما الأعمال التي توكل إليهم فهي كنس الشوارع وتنظيف الحمامات وغيرها من أعمال مماثلة، ومن لديه منهم مؤهل عال، فعلى الأغلب يرفض توظيفه بسبب أصله، فعلى سبيل المثال أذكر قصة الشاب الإسرائيلي من أصل إثيوبي "شيمي إيتشو" الذي أنهى دراسته للقانون وحاول الحصول على عمل فلم يتمكن، بل لم يتمكن من الحصول على فرصة للتدريب، وقد تحدث عن ذلك فقال: "اسمي لا يظهر أن أصولي إثيوبية، لذا فبعد أن أبعث بسيرتي الذاتية، يدعونني لإجراء مقابلات يقال إنها موضوعية، ولكن في نهاية الأمر، يكون الرد بالرفض، وأنا لا أرى أي سبب منطقي لرفضي، سوى أنني ذو بشرة سوداء"!.
وتحاول بعض الأحزاب ضم ممثل عن هذه الجماعة من - باب ذر الرمال في العيون -، إذ إن ذلك لن يعفي أعضاءه من ممارسة العنصرية، فقد عانى "ماسالا" أول إثيوبي ينضم لحزب العمل من عنصرية حزبه، إذ استبعدته قيادة حزب العمل في عام 1999 من قائمة الحزب لانتخابات الكنيست ووضعت بدلا منه ممثلة يهود الروس، أما قائد الحملة التي سعت لهذا الاستبعاد فهو "إيهود باراك" "الذي برر موقفه العجيب بالسخرية من بشرة "ماسالا" السوداء والتشكيك في ولاء يهود إثيوبيا بوجه عام لإسرائيل".
واليوم، ظهرت أمام العالم، وبعدسة التصوير، عنصرية الكيان الصهيوني حين رفض ممثلو جهة رسمية فيه، وهي وزارة الصحة قبول تبرع دم لنائبة من أصل إثيوبي، بل وتؤكد هذه العنصرية الفاضحة من خلال محاولتها إصلاح الأمر وتحسين سمعتها بقرار أقل ما يقال عنه "جات تكحلها عمتها"، إذ جاء فيه: "إنه بعد مشاورات قال مسؤولو الهيئة الإسرائيلية المعنية، إنهم على استعداد لتلقي دم النائبة في البرلمان لكن سيتم تجميده ولن يستخدم"!