أكتب مقالي هذا من القاهرة، وسط أنفاسها وأجوائها الباردة الجميلة.. مصر وبحق ـ وبعد بُعدٍ قارب أربع سنوات عنها ـ بدت لي اليوم بخلاف ما تتناوله القنوات المهتمة بالتصعيد، ونشر ما يخالف الواقع.. نعم القاهرة بالخصوص، ومصر بالعموم كانت وكانت، ولكنها سرعان ما تعافت بفضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ وفضلُه سبحانه غير منقطع.. إنها مصر العظيمة، التي قال عنها الشاعر أحمد علام: "أرض النعم.. مهد الحضارة.. بحر الكرم".
سبب الزيارة الخاطفة ـ وإن كان أمرا شخصيا بعض الشيء وهو تقديم التهنئة بنجاح الفحوصات الطبية لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف ـ إلا أنه أتاح لي فرصا علمية متعددة، من أبرزها الاستماع من فضيلته عن مدى حاجة المجتمعات في كل مكان إلى العيش في سلام ووئام، والآليات اللازمة لذلك.. زيارتي لمصر تضمنت ـ ودون تخطيط ـ أمرين آخرين؛ الأمر الأول: زيارة فضيلة مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام، الذي تفضل الله عليه بالحكمة البالغة، إضافة إلى العلم الوفير. والأمر الثاني: زيارة الرابطة العالمية لخريجي الأزهر؛ ولقاء معالي الشيخ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي وزير الأوقاف الأسبق، ونائب رئيس مجلس إدارة الرابطة للشؤون العلمية والثقافية، وعضو هيئة كبار العلماء، الذي عرفت من خلاله، ومعاونيه الكرام الدور الإحيائي العالمي للأزهر الشريف ومنهجيته الوسطية، في الحفاظ على هوية الأمة الإسلامية وتراثها، من خلال الدفاع عن قيم الإسلام، والوقوف في وجه حملات التشكيك والتشويه المغرضة؛ أكد لي ذلك قيام الرابطة وبكل اقتدار بعقد الملتقيات والمؤتمرات والندوات المختلفة، إضافة إلى القيام بتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ومشروع التعليم عن بعد لدراسة العلوم الإسلامية والعربية، وغيرها من الأنشطة المختلفة.
الأزهر الشريف ـ وكما أكد معالي الشيخ صالح آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، أثناء زيارته لفضيلة الإمام الأكبر قبل فترة ـ "القلعة الإسلامية الشامخة، والمرجعية الإسلامية لأهل السنة والجماعة.. وأن علماء المملكة لا يقبلون المساس أو المزايدة على دور الأزهر الديني أو السياسي"، وتم الاتفاق ـ وكما ذكر فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر ـ على "أن المعيار الحاكم للاتجاهات والتيارات الإسلامية المختلفة هو الفكر الإسلامي الوسطي القائم على الاعتدال.. كما تم الاتفاق على عدم المساس بالمجتمعات السنية تحت أي شعار مخالف، والتصدي لأي محاولة تحاول النيل من معتقداته، أو نشر أفكار خبيثة بينه".
يخطئ من يظن أن الأزهر يمكن أن يتنازل عن دوره المتوازن بين التراث والتجديد، أو دوره كمركز الفاعلية في العالم الإسلامي، هذا الدور الذي تربع عليه باستحقاق بفضل نبذه للتشدد وضيق الأفق، ومحاربته للجفاف العقلي والوجداني، ووقوفه ضد معارك التقسيم والتلوين، ومحافظته على رصيده الثمين في عقول المسلمين من خلال ما يعرف بالشخصية الأزهرية، التي تتميز بمكونات ثلاثة؛ أولها: رحابة الأفق وقبول التعددية، وثانيها: التوسط بين الآراء المختلفة ومحاولة الجمع بينها، كما يسميه الأزهريون "إزالة التعارض بين المختلفات"، وثالثها: التنفير من "التكفير"، وما يؤدي إليه، والتماس الأعذار للغير؛ حتى يبتعد النقاش عن دائرة التكفير. الأزهر الشريف اليوم وأكثر من أي يوم مضى في حاجة ملحة إلى أن تلتف حوله جموع المصريين، بل وجموع المسلمين؛ إذ إنه قاطرة المواجهة، والمصريون، والمسلمون ـ أينما كانوا ـ هم جنوده، وأنصاره.