اطلعت وأعدت قراءة الأمر الملكي الكريم بخصوص الفتوى، واستحضرت أثناء القراءة الوطن والمجتمع والدين والبلاد والعباد والظروف السياسية والأمنية، ووجدت في نهاية الأمر أن هذا الأمر الكريم شمل وضمن حماية حقيقية لمقدرات الوطن وأمنه السياسي والاجتماعي والفكري، ورسخ أركان الدولة ومؤسساتها في ضمير ووجدان الوطن والمواطنين، وأكد على دولة المؤسسات والقانون التي رسخ دعائمها الملك المؤسس.
أمر هو مدرسة في القانون الدستوري والإداري والقضائي وحتى الاجتماعي.. أمر رسخ لمبادئ وأحكام النظام الأساسي للحكم الذي يجب أن يعلمه ويلم به كل مواطن ومقيم على هذه البلاد الطاهرة الشريفة بوجود الحرمين الشريفين.
لقد أكد الملك ـ حفظه الله ـ أسس كيان هذه الدولة التي يستمد الحكم فيها سلطته من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهما الحاكمان على جميع أنظمة الدولة.
والواجب على المواطنين أن يبايعوا الملك على كتاب الله وسنة رسوله وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، لأن الحكم يقوم على أساس العدل والشورى والمساواة.
وعلى المجتمع السعودي واجب الولاء والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر واحترام النظام والاعتزاز به، وذلك على أساس من اعتصامه بحبل الله والتعاون على البر والتقوى والتكافل وعدم التفرقة لتعزيز الوحدة الوطنية لمنع كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام.
لقد جاء الأمر الملكي في موعده، فلقد كان انفلات الفتاوى وما تحتويه من آثار سلبية يهدد النفوس والوطن وأمنه الذي تلتزم الدولة بتوفيره لكل مواطن ومقيم على أراضيها. ولأننا دولة مؤسسات وقانون وحقوق الإنسان ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على نص شرعي أو نظامي، ولا عقاب إلا على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص النظامي، فكان هذا الأمر الملكي الذي جرم أعمال الإفتاء الصادرة عن غير أعضاء هيئة كبار العلماء، وبذلك أكّد أنها دولة القانون والمؤسسات التي حدّدت سلطات الدولة بالقضائية والتنفيذية والتنظيمية، وأن مصدر الإفتاء هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقوم به هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، والتي أوضح النظام الأساسي للحكم ترتيبها واختصاصاتها، وأن الملك هو الذي يتولى سياسة الأمة سياسة شرعية طبقاً لأحكام الإسلام، ويشرف على تطبيق الشريعة والأنظمة والسياسة العامة للدولة وحماية البلاد والدفاع عنها. وبالتالي فإن ما قام به الملك في هذا الأمر هو التأكيد على ثوابت الدولة ودعائمها، وترسيخ عمل كل مؤسسات الدولة وعلاقتها بالمواطن. وعلى كل مواطن أن يلتزم باختصاصات الجهاز الذي يتبع له وأن يؤدي عمله وفق نظام الجهاز الذي يعمل به دون الخروج على تلك النظم أو الاختصاصات ولا يتعرض للفتوى ما دام أن هناك جهازا مؤهلا يعنى بالفتوى وهذا اختصاصه وكفى.
ومعنى هذا أنه لا يكفي لمن حصل على قسط من علم شرعي أن يتجاوز حدود ما يعمل به فيتعرض للفتوى، فليترك الفتوى لأهلها والقادرين عليها والمؤهلين لها، ويؤدي واجبه المنوط به. فإن كان مدرساً للعلوم الدينية في المدارس فهو مدرس يعمل في وزارة التربية والتعليم، وهذه حدوده. وإن كان ذلك في الجامعات فصفته أستاذا جامعيا بجامعة تحت إشراف وزارة التعليم العالي، وهذه حدوده. وإن في القضاء فعمله هو أن يكون قاضياً، وهذه حدوده داخل السلطة القضائية بالمجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل وديوان المظالم. وإن كان إمام مسجد، فهذه وظيفته، وهذه حدوده بإشراف وتوجيه وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد. وإن كان في جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فله وظيفته ومهمته المقيدة المحددة بالأنظمة والقوانين التي لا تعطيه الحق أو لغيره بتجاوزها أو الانتقاء منها، وهذه حدوده.
إن الأمر غاية في الأهمية، وعلى جميع مؤسسات الدولة وسلطاتها أن تجعل من التنفيذ الكامل والشامل والعاجل لهذا الأمر الملكي الكريم الذي يرسخ أركان الدولة واستقرارها وأمنها في قمة أولوياتها، وأن تخصص لهذا الأمر الفريق الكامل والمؤهل للقيام به وتوفير كامل الإمكانات لذلك، لأنه وإن كان في ظاهره قد خاطب عددا من الجهات مثل هيئة كبار العلماء وخطباء المساجد وأعضاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاة وينظر إلى وزارة الإعلام ومجلس القضاء الأعلى بأنهم المعنيون برصد المخالفات ومعاقبة المخالفين، إلا أن الأمر موجه إلى جميع وزارات وهيئات ومؤسسات الدولة التي يجب أن تكون معنية بالقيام بمراجعة شاملة لإداراتها وموظفيها والمناشط الاجتماعية والثقافية التي تقوم بها لترسخ مبادئ ومضامين الأمر الملكي الكريم .. يصل إلى مراجعة أسماء القائمين على شؤون الجمعيات الخيرية، وما في حكمها بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني مثل: الغرف التجارية وجمعيات الإدارة والاقتصاد والهندسة والمحاسبة.
فهذا الأمر الملكي من منظور إداري وقانوني ودستوري هو دعوة للتمسك بالتخصص النوعي والمهني، فيفرغ كل مواطن لعمله داخل مؤسسته ويلتزم بنظامها واختصاصها ولا يخرج عنها، وبهذا فقط يتطور كامل المجتمع ويرقى في كل جنباته. والله الموفق.