في أبجديات السياسة، لا يمكن النجاح دائما في القفز على الواقع، لصالح الأهواء والانطباعات الفردية الصرفة. فعند الحديث عن الاتحادات السياسية، لا أعلم لماذا يتجاهل البعض أثر المعطيات الثابتة والمتحولة، (أيديولوجية، اجتماعية، ثقافية) كانت أو (واقعية، مادية، حسية) في تشكيل قواعد السياسات الاتحادية، أو الأخرى الانكفائية.

العوامل المادية هي العصب الأهم في استراتيجيات المشروعات الوحدوية الكبرى، في حين أن المعطيات المعنوية أو الثقافية التاريخية هي المحركات الأبرز للمشروعات الانفصالية، وحركات الاستقلال أيضا.

الذين يطلقون آراءهم الأفلاطونية، مثلا، عن الهوية الخليجية بالتقليل من قيمة أي خطوة نحو الاتحاد أو تحقيق الوحدة، المفضية إلى هوية جامعة مانعة، لا يشعرون بالخطأ الذي يرتكبونه حين لا يعتمدون في أطروحاتهم عن الهوية إلا على الجوانب الثقافية والتاريخية، في عالم تعصف به رياح الأزمات السياسية والاقتصادية والتنموية، وغيرها من عوامل غيرت طريقة التفكير لدى الشعوب قبل الساسة والقوى العالمية خلال قرن مضى.

المصير المشترك اليوم أصبحت تحدده عوامل أخرى أكثر قوة من لغة التاريخ والإرث الحضاري.. تلك اللغة المكبلة للوعي السياسي، مهما حاولنا المراوغة وتجاهل تلك الحقيقة.

لا أحد يقلل من أهمية المعطيات القومية والتاريخية الثقافية في نشأة الاتحادات السياسية وانهيارها، إلا أنه ليس مستحيلا أن تتحد الهوية السياسية في ظل اختلاف تلك المعطيات، فكيف باتفاقها؟! بل إنه كلما زادت التحديات شراسة، خفت حدة الاستحالة، ولعل تجربة الاتحاد الأوروبي، أنصع مثال على ذلك.

في المقابل، فإن الفشل وبالشواهد، كان مصير مشاريع وحدوية كبرى -كما حدث في الاتحاد السوفييتي- برغم الانسجام الثقافي والتاريخي، إلى حد ما ليتحول إلى مشروع أقل درجة في الاتحاد.

أسباب فشل بعض الاتحادات مختلفة فبعضها جاء لأن تلك الكيانات السياسية اتجهت للوحدة كترف، وبعضها الآخر حصل بسبب تطرف بعض النماذج السياسية في فرض الوحدة بالقوة في ظل وجود ممانعة ليست فقط تاريخية، بل سياسية مصلحية واستراتيجية.

لعلي أختم بأسئلة تبحث عن إجابات، فهل قيام واستمرار الاتحادات السياسية، عبر العالم، مرهون بالإحساس والأحكام المسبقة؟ أم أن جميع تلك المشروعات لا يمكن أن تستمر للأبد؟ وهل استحالة توحد الهوية كذبة نكرر إطلاقها كلما عرفنا أننا أضعف من أن ننجح في بذل أسباب تحقيقها؟

أم أن الأمر يخضع لأمور أكثر تعقيدا؟